18 ديسمبر، 2024 6:23 م

ما سر استتباب الأمن؟

ما سر استتباب الأمن؟

كطع بيه زماني كطع بتال
وخلاني بتالي الظعن بالتال
راح العيط كلنا الخلف بالتال
وراح التال وانكطع الرجا
هي عتابة أنشدها قائلها بعد أن انقطعت به السبل بين ماضٍ يقتات عليه، وحاضر يؤمله بمستقبل يحوي قوتا يكفيه.
جلنا يذكر الأساليب الاستخبارية التي زرعت الرعب في نفوس المواطنين إبان حكم صدام، يوم كان رب الأسرة العراقية يخشى نقد النظام أمام أبنائه، وكان الزوج لايجرؤ على إبداء الامتعاض او التذمر من النظام او الحزب على مسمع من زوجته، وكذاك الحال بين الأصدقاء والأقرباء والجيران، إذ كانت أبواب (الفرقة) و (الشعبة) و (الفرع) مفتوحة على مصاريعها، لكل من لديه تبليغ او إفادة يدلي بها، فيذكر أسماء أشخاص كانوا قد تفوهوا بما يمس (الحزب والثورة والسيد الرئيس حفظه الله ورعاه) فيشي للـ (رفاق) هناك عما في جعبته من معلومات، و (الرفاق) بدورهم يطبقون منهج البعث في الترهيب والوحشية، وانعدام الضمير وسوء الأخلاق وقلة الأدب، وما الى ذلك مما عرفوا به من سمات مخزية، وبكل هذه المعطيات لا يسع للمواطن سوى الصمت، أو السكوت من مركز ضعف أجبر على انتهاجه، وبذا يخيل للناظر والمنظّر أن الأمن مستتب في البلاد.
كذلك من أسباب الاستقرار الأمني الداخلي الذي كان مستتبا حينها، هو أن رأس النظام كان يعمل ويخطط لصالح أعداء العراق، فكان بنهجه وسياسته الداخلية ما يغنيهم عن التدخل بإثارة القلاقل والمشاكل، فما يقوم به هو عين المشاكل والقلاقل، ويصب بتحصيل حاصل في مصالحهم، ويلبي حاجاتهم ومآربهم من دون الحاجة الى تجييش جماعات إرهابية، أو إرسال قطعان الأجساد المفخخة او تسخير العقول المدججة بالمعتقدات التكفيرية، لبث افكارها العدوانية ونشرها بين أبناء البلاد، لتكتمل مراحل حربهم ضد الشعب العراقي بصفحاتها كافة.
يحضر مخيلتي استطلاع أجراه زميل صحافي قبل سنوات، وكان لقاءً سريعا مع امرأة مسنة تبدو عليها قسمات الظروف التعيسة والعيشة العسيرة، والتي يعاني منها العراقيون جيمعهم -ماخلا السراق والفاسدين-. وقد سألها زميلي:
حجية.. مارأيك بصدام؟
أجابته وثقتها عالية بصحة إجابتها، مؤكدة مصداقيتها بالقسم في معرض ردها، إذ قالت بألم وحرقة:
“والله ياابني.. صدام وجهه أسود.. لكن الأجو وراه بيضوا وجهه”.
هي شهادة بليغة وتصريح صادق من مواطنة عراقية، لاقت الويل والمرار على يد من أخلفوا صدام في إدارة مفاصل البلد، منذ ما يقرب من عشرين سنة. وفي حقيقة الأمر فإن صدام، كان يعي مايفعله جيدا، لكن عنجهيته ونرجسيته وغطرسته كانت تجمل له قبح أفعاله، وهذا ديدن مرضى النرجسية الذين سبقوه من قادة ورؤساء وسياسيين في العالم، إذ سعى صدام بنهجه الصارم إلى وضع المواطن في زاوية ضيقة، ليس أمامه سوى خيارات قليلة في العيش، فإما الانجراف مع تيار البعث وأساليبه اللاأخلاقية في التعامل مع مفردات المجتمع، وإما الهروب خارج أسوار الوطن والجري وراء متطلبات الحياة في عالم الغربة والاغتراب، وإما القبوع خلف قضبان السجون ودهاليز أقبية الأمن والاستخبارات، وإما التسلق الى أعواد المشانق، او الغوص في أحواض التيزاب، او الدفن حيا، وبين كل هذه الخيارات عاش العراقيون ماضيهم الأسود الممتد طيلة ثلاثة عقود ونصف، وعلى قول “حجيتنا” فإن السواد الذي عم أجواء العراق إبان حكم صدام، صار نهج ساسة اليوم أكثر عتمة وحلكة منه، الأمر الذي حدا بها الى ذمهم بالصورة البليغة التي بينتها، ولا أظن أحدا منهم لم يسمع ماقالته، او يراها وهي تنطق بالحكم الذي يشاركها فيه باقي العراقيين، فهل هم يرعوون؟ وهل من سقف زمني لنهاية غطرستهم وغيهم فيما يعملون ويصرحون ويقررون؟ وهل هم يتقون يوما تسود فيه وجوه لايبيضها جاه ونفوذ ومنصب ومال وبنون؟
[email protected]