بعد وجبة سريعة من “كاهي أبو علي” مع قيمر السدة ، متبوعة بكأس مثلجة من شربت زبيب الحاج زبالة المنعش، كنت على موعد مع صديق خفيف الظل،سريع البديهة ، حسن المعشر عاد بالأمس قادما من العاصمة المصرية القاهرة بعد طول غياب، ومكان لقائنا كالمعتاد هو “مقهى الزهاوي” التراثي عند مدخل شارع الرشيد ،ففي زاوية من زوايا ذلكم المقهى الأنيق الذي أدمن الجلوس على أحد مقاعده الشاعر جميل صدقي الزهاوي، في ثلاثينات القرن الماضي، ليطلق من أروقته سهام المساجلات الأدبية الشهيرة التي دارت رحاها بين بغداد والقاهرة مع عباس محمود العقاد ، وفي ركن هادىء من هذا المقهى الذي جلس فيه شاعر الهند الكبير طاغور عام 1932م ، وعلى منوالهم عشرات الوجهاء والساسة والأدباء والشعراء ، اعتاد الصديق الوفي وفور عودته من سفرياته العديدة إتحافي بهديتين، الأولى ثقافية، والثانية– سكرية – عبارة عن علبة بسبوسة أو كنافة أو معمول إلا أنه قد فاجأني هذه المرة وعلى غير العادة بهدية ثمينة ولكن بطعم ومذاق خاص زاوج بين الثقافة والحلاوة المنثورة كالرياحين بين دفتي كتاب صدر حديثا عن “دار الحكمة” في كل من القاهرة وبيروت ولندن في آن واحد ،وقد صدر الكتاب بحلة قشيبة وبتصميم فني مبتكر، فكانت هديته تلك أحلى من الشهد متجسدة بسيرة قصصية تزينت بعنوان لافت (مازلت هناك ) بقلم الدكتور ظافر العاني ، رئيس برنامج الدراسات العراقية في مركز الخليج للأبحاث / دبي بين 2004 – 2006، النائب عن محافظة بغداد لثلاث دورات في مجلس النواب العراقي بين 2006 – 2021، عضو البرلمان العربي ورئيس اللجنة السياسية فيه بين 2018 – 2021 ، والحق أقول لكم أنني وقبل قراءة هذه السيرة القصصية المعبرة ، وتلكم المسيرة العطرة بأريجها الاجتماعي الفواح كنت أظن واهما بأن من يتعامل مع”فن الممكن = السياسة ” فإنه لن يحسن الكتابة بأسلوب أدبي مفعم بالمشاعر الجياشة ،والأحاسيس المرهفة ،إلا أن ما قرأته من عناوين خلابة ومضامين مبهرة قد غير لدي الكثير من الانطباعات الموهومة، والقناعات المغلوطة السابقة !
إنها سيرة اجتماعية قصصية ذاتية أحاطت بمعاني المفردات ومدلولات الالفاظ والمصطلحات ولم تخلط حابلا بنابل لتقدم لنا طاقة عطرة ودروسا مليئة بالعبر والتجارب الانسانية الثرية أجاد كاتبها صهرها في بوتقة ساحرة تخلب الالباب منطلقا من فهمه العميق بدورة الحياة وتقلب المجتمعات علاوة على استيعاب طبيعة ودوافع وأسباب صِدّام أو حوار أو انهيار أو ازدهار الأفكار والايديولوجيات لتنسج أنامله وليخط قلمه بانوراما أدبية ستخلدها الذاكرة الجمعية ، وتحتفظ بها الذائقة الأدبية ولاريب في إطار أدب”اليوميات والمذكرات والسير الذاتية ” ومعلوم بأن هذا الجنس الأدبي صعب المراس لا يتقنه إلا من خبر الحياة ، وطوع البلاغة بكناياتها ومجازاتها واستعارتها وتشبيهاتها وسجعها وجناسها وطباقها وتوريتها للتعبير عن المتواري من خلجات النفس ، المخزون في الذاكرة و اللاوعي ، لينفث ما يجيش في الصدور بين الصفحات والكلمات والسطور على الوجه الأمثل محلقا بقرائه الى أفق أرحب، مجيبا عن كل سؤال حائر يجول في خواطرهم ،كل تساؤل حارت فيه عقولهم ، مستدعيا من الماضي ما يشغل بالهم ، ومستجليا من الحاضر ما يثقل كواهلهم، ومستشرفا للمستقبل بعض ما تضيق به صدورهم ، وبما لا يجيده سوى أناس قد عاشوا التجارب الانسانية وتفاعلوا معها سايكولوجيا وسوسيولوجيا وانثروبولوجياعن كثب لتأتي السيرة الجديدة فتمثل عصارة تجارب عدة واضافة مهمة ستحتل الصدارة بين عديد الكتب ولا شك ، فضلا على صالات المعارض ورفوف المكتبات !
وغني عن البيان بأن أعظم المذكرات والسير الذاتية هي تلك التي كتبت بأقلام من عاش تجاربها المريرة أو بعضها شخصيا ليتفاعل معها بعين اليقين ، وحق اليقين ،وعلم اليقين ، وهذا هو عين ما قدمه لنا الدكتور ظافر العاني ، عبر شذرات وقبسات ومقتطفات وإضاءات أبحرت بنا في تاريخ العراق الحديث علاوة على سيرته الشخصية وقد كتبت بلغة رصينة ، وعبارات جزلة، وبمعان رقراقة، ورسائل منثالة شائقة ماتعة سرعان ما تأسرك لتشد انتباهك لتمعن نظرك وتقلب طرفك في سطورها متنقلا بين صفحاتها كإبن بطوطة من مرفأ الى آخر ،ومن محطة سابقة الى نظيرة لها تالية ، حتى تكمل ما بدأته من دون أن تشعر بالوقت الذي أمضيته في قراءتها تباعا طال ذلك الوقت أم قصر ، فيما يصلح بعضها لأن يتحول الى برامج إذاعية في حلقات، أو إلى أعمال درامية متلفزة ، وربما حتى الى أفلام تنتمي للسينما الواقعية كذلك !
عملة الكارتون ، خمسة فلوس، في حضرة الإمام ، بساتين الدجيل ، عود ثقاب ، ابن الرئيس ، ملاكي الرحيم ، اضراب ، بيت الساحرات ، أمي وجدتي ، حلاوة روح ، أهل المحبة ، بروس لي في الاعظمية ، حارس ليلي،العاشق الصغير ، ترويض النمر ، ديوان شعر ، الصديق الفتان ، هدية ، أريد ان أتزوج ، أبو يعكوب وعلم النفس ، محسن كونياك ، توقيع بلا بصمة ، أول الخالدين ، ليلة بكى أبي ، في مقهى الجزائر ، حجي رزوقي أبو السيفون ، خوذة ومهر، الدكتور السفير ، بيض صاعد نازل ، ثقافة الهمبركر ، يوم باعت أمي حجلها ، وجاء الغزاة ، وغيرها من العناوين الأخاذة الساحرة ، والقصص الشاعرية المفعمة ، والذكريات العاطفية المشحونة، نجحت في اضحاكنا الى حد القهقهة تارة ،وفي استدرار دموعنا الى حد الندب و الرثاء أخرى لتتنقل بنا بين الطفولة والكهولة ، بين الحرب والسلام ،بين عوالم الوظيفة والأسرة والمدرسة والجامعة والمسرح والمقهى والنادي، بين شقاوة الاطفال، وعلاقات الجيرة والصداقة والزمالة والأخوة والعمالة الوافدة الى العراق ، كل ذلك بأسلوب السهل الممتنع الذي نجح بإمساك العصا من الوسط ومن غير افراط في السرد والقص ولا تفريط ، ومن غير اسهاب مخل ، ولا اختزال مخل ،وخير الأمور أوسطها، ومعلوم بأن الوسط الذي لا يأتي إلا بخير هو وكما يقول الحكماء والبلغاء ” فضيلة على الدوام بين رذيلتين ” .
في قصة “عاشق النهر “أمتعنا العاني بسرد أدبي مبهر انتهى بخاتمة صادمة اختزلت الصراع الأزلي بين الواقع المعاش ،والطموح المأمول ولأجيال بأسرها، فغازي الاسمر العفوي الانطوائي المهاجر من الأرياف إلى المدن ليس واحدا ، بل عدة ملايين ، لقد غرق غازي في نهر التمايز الطبقي ، والتباين الاجتماعي ، والتضاد الثقافي، والتناقض المعرفي ،بل وغرق في أحلامه المجهضة أيضا قبل أن يغرق في نهر دجلة الذي وعلى ما يبدو قد أشفق عليه فعقد العزم على احتضانه قبل أوانه ليريحه من حجم العناء الحاضر، قبل الاصطدام الحتمي بخيبة الأمل المستقبلي ..
لتأتي قصة “مؤتمر دولي ” فتنكأ جراحات لم تندمل بعد وقد تدفقت رسائلها وسطورها كشلال هادر استدعى من الذاكرة الحبلى قوة الأواصر العائلية والاجتماعية في العراق من خلال الترانشوز والكليجة أم التمر ، اضافة الى تلخيصها لحجم التأثير الإقليمي من خلال الورقة البحثية المقدمة من جهة ، وألم الحصار الامريكي الغاشم لمدة 13 سنة متتالية من جهة أخرى ما أسفر عن وفاة مليون وربع المليون عراقي نتيجة فقر الدم الحاد ، وشح الأدوية ، وتهالك المستشفيات ، وتقادم الأجهزة الطبية آنذاك ،مرورا بمعاناة الموظفين والمعلمين والاساتذة والتدريسيين والكادحين وانفصالهم شبه الكلي عن العالم من حولهم .
أما قصة ” لاعب الشطرنج” فهذه حكاية عراقية أخرى تفيض عذوبة ولعل أجمل ما فيها أنها تميط اللثام عن سيرة قامة من قامات العراق الشعبية وتلفت الانتباه الى جانب من ابداعات العراقيين واهتماماتهم ومواهبهم ومهاراتهم وتعاضدهم وكفاحهم من أجل لقمة العيش الحر الكريم ، علما بأن خضر الشطرنجي ليس واحدا من حيث المواهب العراقية المتميزة أو المهارات المحلية الفذة ، بل عدة ملايين !
وأما قصة “رياضة حزبية “فهذه قصة مفعمة بالمشاعر الجياشة تصلح فيلما تسجيليا قصيرا عن توأمة الأضداد ،واخوة – الأعدقاء – وعلى منوال الفيلم المصري الشهير المدرج ضمن أفضل 100 فيلم في السينما العربية ” خرج ولم يعد “.
كذلك “قصة الفتى الحائر” التي هيجت من الذكريات الجميلة ما لا يحصى حيث اشرطة البيتلز ، وبوني أم ، والبي جيز ، وخوليو الاسباني ،وديمس روسوس اليوناني وغيرهم ، ودور الشيخ المصري محمود غريب إمام وخطيب جامع البنية آنذاك في اطلاق أسلوب دعوي جديد محبب يوائم بين المعاصرة والاصالة ليمثل جوهر الدين السمح النقي بعيدا عن المغالاة والتعصب والتفريط .