ليس من العبط أن يكون لكل أمة يوم تستريح فيه من أعباء العمل فتتخذه عطلة تغلق فيه الأسواق ويتفرغ فيه رب العمل والعامل لأفراد أسرته ومن هم بعيلولته، يقضي معايشهم في البيت وخارجه، يخرج معهم للتسوق والتفسّح والزيارة. ورغم وجود العطلة الدورية لكل صنف من أصناف المهن، فإن أرباب العمل والدوائر الرسمية تضع للعامل أو الموظف عطلاً سنوياً مدفوعة الثمن، ما بين ثلاثة الى أربعة أسابيع، أو أقل أو أكثر حسب طبيعة العمل، له أن يأخذها على فترات أو دفعة واحدة، تتيح له فرصة التفرغ لنفسه أو لأفراد أسرته، وتوفر له الوقت الكافي للسفر إن أراد، يزيح عن نفسه أثقال العمل وعن أسرته تبعات الحياة اليومية، فيستريح ويريح، وإذا استأنف العمل عاد بروحية جديدة نشطة ومنتجة بعد فترة النقاهة النفسية والروحية.
ولاشك أن تحقق العطل في كل الامم والشعوب على وجه الأرض عبر الوحي أو عقل الإنسان، هو تعبير عن الفطرة الإنسانية وميلها الى الاستراحة الدورية أو حسب متطلبات العمل، فإذا تعب الجسد تعبت معه النفس الإنسانية وهي بحاجة الى الترويح والتنشيط، مثلها مثل السيارة التي يلزمها الطاقة حتى تكون فاعلة ومفيدة، وإلى جهاز الهاتف النقال الذي لا يعمل من غير شحن.
ولما كان الصانع أعلم بحال مصنوعاته، فإن الله سبحانه وتعالى الذي خلق البشر وأودع في البدن الروح والنفس، محيط بحال الإنسان، ولذلك كان للبدن طعامه وللروح أُكُلها وللنفس غذاؤها، والاستراحة التي يتخذها المرء لنفسه من مشاغل الحياة توفر هذا الغذاء الحيوي، وتحقق الغذاء الطبيعي غير الملوث بافرازات الحياة، وذلك عبر الاعتكاف، الذي أسبغ عليه الإسلام صبغة العبادة يتفرغ فيها الانسان لنفسه ومع ربه، ليأخذ من هذه الفسحة العبادية الطاقة والشحنات لقابل الأيام بأعبائها وملماتها.
الفقيه آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي، يضعنا في “شريعة الاعتكاف” على طبيعة هذه الفسحة العبادية في 130 مسألة شرعية مع 30 تعليقة للفقيه آية الله الشيخ حسن رضا الغديري مع مقدمة وتمهيد في كتيب صدر حديثا (2014م) في 64 صفحة صدر عن بيت العلم للنابهين في بيروت.
وحدة المكان والزمان
ما يميز الاعتكاف عن الكثير من العبادات هو وحدة المكان والزمان، أي التلبث والبقاء في مكان واحد ضمن زمن معين أقله ثلاثة أيام، وأشهر الأقوال بما يخص مكان التلبث والحبس والاعتكاف هي المساجد الأربعة: المسجد الحرام والمسجد النبوي ومسجد الكوفة ومسجد البصرة. وعند بعض الفقهاء عموم المساجد أو المسجد الأعظم في كل مدينة.
والإعتكاف كعبادة لا تختص بالإسلام، فهي ملازمة للإنسان مع الديانات السابقة، وسجّل القرآن قدمها في الآية 125 من سورة البقرة في قوله تعالى: (وعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)، ويسجل القرآن واقعة لبني اسرائيل عندما نجّاهم الله من فرعون وجنده، فإنهم رأوا في طريق العبور والنجاة قوماً يعكفون على عبادة غير الله فطالبوا النبي موسى(ع) بمثل ما هم عليه القوم، فجاء الخطاب، كما يصوره القرآن الكريم في الآيات 138-140: (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ. إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ).
ويلازم الاعتكاف في المساجد الصوم، فهو جزء منه، ولا يتحقق العكف واللبث من غير الصوم، وبتعبير الفقيه الكرباسي: (ويظهر من بعض الروايات بل والأحكام التي وردت في مسألة الاعتكاف في أن الغرض منه مزيد العبادة وأفضله وقوعه في شهر رمضان الذي نزلت فيه كل الصحف والكتب السماوية على الأنبياء، بل إنَّ الإعتكاف في العشر الأواخر منه هو الأفضل)، وقد ثبت بالتجربة، أن البطنة تضعف قوة التفكير، وكلما كانت المعدة غير ممتلئة كانت الدماء مهيئة لاستقبال الفكرة وتدويرها في الذهن والخروج بالرأي الصائب، ولهذا ينصح المختصون مديري الأعمال وأصحاب القرار تجنب الوجبات الثقيلة قبيل جلسات العمل والشروع باتخاذ القرارات المهمة، فضلا عن ان امتلاء المعدة يساعد على نوم البدن قبل نوم الذهن، ولما كان من مقاصد الاعتكاف هو تطهير مجرى التفكير من شوائب الحياة، وتسليك قنوات الروح والنفس، فإن الصوم يساعد بشكل كبير على تحقيق هذا الواقع، فضلا عن تحقيق المناعة الذاتية من كل ما هو سلبي، وبتعبير الفقيه الغديري في المقدمة: (العمل العبادي أيّا كان فهو يلعب الدور الأساسي في رقيّ الإنسان المؤمن بربه والمستعبد بطاعتة إلى أعلى مراتب الكمال من الإيمان والاتكال على الله تعالى، فإن الإنسان مهدد في جميع الحالات والأزمنة بهجوم الوساوس الشيطانية عليه، فهو يحتاج في كل حين الى ما يحرسه ويحفظه عنها، فالممارسة العبادية في الاعتكاف لها دور كبير في ذلك).
ومن الثابت أن قرارا مهما يتخذه الإنسان في ساعة تفكير وتأمل له أن يغير من مسير حياته أو أسرته أو مجتمعه أو أمته، ولهذا ورد في الحديث الشريف: (تفكّر ساعة خير من عبادة ستين سنة)، لأن الساعة الزمنية التي بها يضرب المثل هي في واقعها زبدة التفكير والتأمل والمخاضات المهمة، ومن يقرأ تاريخ العلماء والمخترعين والمبتكرين سيلحظ أن تفكيرهم في لحظة تفكير أو ساعة تأمل هو الذي قادهم الى الكثير مما نحن عليه من العلوم، بل ان التفكير هو لب كل شيء وأساسه، ومن الدين أس العبادة كما يؤكد الفقيه الكرباسي في التمهيد، ويضيف: (فإذا جمع المرء بين التأمل والعبادة بل تأمل في العبادة مع ممارستها يصل الى درجة من العرفان، فإنَّ الاعتكاف هو التصوف المحلَّل، وهو العرفان الحقيقي الذي يتوصل من خلاله الى سرّ الحياة والوجود وإلى خالق الحياة والوجود، وإلى شكر الخالق المنعم، وربما بذلك يتمكن من أن يتخلى بعبادة التجار أو يرفض عبادة العبيد، ويتذوق عبادة الأحرار ولو لساعات أو أيام).
إذن، فالاعتكاف رحلة خارج المألوف دائرتها المسجد، وبتعبير الفقيه الكرباسي: (سفرة الى خارج المعترك اليومي الذي تعيشه مع بني نوعك من زملائك وأصدقائك وعائلتك ومن جميع ممارساتك الجسمية والروحية، فتذهب من بلدك الى المسجد الحرام أو غيره لتجد نفسك في محيط آخر مختلف تماماً، تمارس غير ما تمارسه أيام سنتك، وتفكر بغير ما تفكره به أيام سنتك، لتعود بعدها كما ولدتك أمك صافي البال مرتاح النفس، دبَّ النشاط في روحك وجسمك).
المجتمع في المقدمة
يدرك المرء من حصر الاعتكاف في المساجد الأربعة على الرأي الشائع، أهميتها حيث تجمع بين الجزيرة العربية مهبط الوحي، وعاصمة دولة الرسول في المدينة المنورة، وأرض السواد (العراق) الذي منه طاف الإسلام في الآفاق، وعاصمة دولة الإمام المهدي(ع) في الكوفة المشرفة، ولعلّ التأكيد عليها لاحتياج المعتكف الى السفر اليها لمن لا يعيش بجوارها، والسفر في واقعه يحقق الجزء الأكبر من الإنقطاع عن الأهل والخلان والتجارة، ويوفر للمعتكف فرصة التفرغ الكامل الى رب العبادة والتفكير في سابق الحال وقادم المآل بعيداً عن البيت والمال، والعودة الى الموطن سليم البال.
وبالطبع فان المسافر عليه أن يلبث في البلد عشرة أيام حتى يتحقق الاعتكاف من صلاة تامة وصوم، لأن الثاني ركن من أركان الاعتكاف لا يستقيم إلا به، والأولى عمود الدين يحمله معه في حلّه وترحاله، فلو أفطر، حتى لو كان قد غادر بلده ولبث في أحد المساجد الأربعة، بطل اعتكافه، فالسفر ليس هو الأصل، وإنما يحقق شروط الاعتكاف، تماماً كالحاج والمعتمر، فوجود الحاج في مكة دون اتمام مراحل الحج أو العمرة، لن تسبغ عليه عند الله صفة الحاج، حتى وإن قلده الناس عند عودته نياشين التبريك.
وإذا تعذر على المعتكف السفر، له المكوث في المسجد الجامع في بلده الأصل، الذي يصفه الفقيه الكرباسي بالتالي: (المسجد الذي يجتمع فيه أهل البلد بشكل عام ولا يهم كبره وصغره او كونه مسجدا للقبيلة أو مسجداً يرتبط بالشريحة الكبيرة من الناس أو مسجد السوق الكبير مثلا) ويتحقق الاعتكاف في أي مسجد جامع شاء إذا كان للبلد أكثر من واحد، وبشكل عام: (لا يجوز الاعتكاف في غير المسجد مطلقاً كالمراقد المقدسة والحسينيات، إلا إذا كان فيها مسجد وانطبقت الشروط فيه)، وإذا اعتكف العابد في شهر رمضان تحقق معه الصوم الواجب وصوم الاعتكاف، ولكن في حال الإخلال بما يفضي الى الكفارة، تقع في رقبته كفارتان إحداهما لشهر رمضان وثانيهما للاعتكاف، كما يؤكد الفقيه الكرباسي في المسألة الرابعة والستين.
واذا دخل المرء في عبادة الاعتكاف بين جدران المسجد وأعمدته، حظر عليه ملامسة النساء وشمّ الطيب والبيع والشراء والمتاجرة والاستمناء والمماراة (المجادلة لغرض المجادلة).
ولكن هل يمنع الاعتكاف من عموم البيع والشراء وأمور المعاش؟
يرى الفقيه الكرباسي أن: (البيع والشراء لا يشمل شراء ما يحتاجه من الطعام والشراب وبعض الضرورات أيام الاعتكاف)، كما: (يجوز النظر في أمور معاشه وتجارته وكسبه من دون أن يتعامل بالبيع والشراء، فلو تداول أمر التجارة مع التجّار فلا إشكال فيه).
ويلاحظ أن من شروط الاعتكاف استدامة المكوث في المسجد والبقاء فيه، لكن الإسلام الذي يؤكد على قوة المجتمع ووحدته، أتاح مما أتاح للمعتكف خارج المسجد: (عيادة المريض) و(شهادة الجنازة) و(مشايعة المؤمن) و(إقامة الشهادة) إلى جانب (قضاء الحاجة) و(الاغتسال). فالله غني عن عباده، والعبادة هي لخير الإنسان وعموم المجتمع، ولهذا من العبادة أن يخرج المعتكف من صومعته لزيارة المريض وحضور جنازة المؤمن ومشايعة المؤمن عند السفر وإقامة الشهادة، ولقضاء الحاجة كمراجعة الطبيب او شراء ما يحتاجه من أكل وشراء وغيرهما، إلى جانب الأغسال الواجبة والمستحبة التي تجعل منه نظيف البدن وطهارته الى جانب نظافة السريرة.
في تقديري: إن الوقوف على المسائل الشرعية التي يتناولها الفقيه آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي في سلسلة (الشريعة) وهي في نحو ألف عنوان، تجعلنا في حقيقة الأمر ننظر إلى مديات أبعد من الدائرة الشخصية والقفز الى الدائرة المجتمعية، لأن مسائل العبادات وقبلها مسائل المعاملات، في أساسها موجهة الى المجتمع كقوة بشرية تقف على أرضية التحالف لا التخالف، لها أن تحمل قيم الخير الى المجتمعات الأخرى، بما يحقق مفهوم الخير بين البشرية على أرضية التعاون، وهذه هي الرسالة الإنسانية التي تنشدها الشريعة.