23 ديسمبر، 2024 4:53 ص

ما حول الضفاف وصاحبها

ما حول الضفاف وصاحبها

كان كارل ماركس قد أرسل إلى فردريك إنجلز مخطوطة لقراءتها وكتابة ملاحظاته بخصوصها. وانتظر عدّة أسابيع، بل بضعة أشهر، ولم تصله الملاحظات، حتى وصلته رسالة من انجلز مع مغلّف. وعندما فتح المغلّف فوجئ ماركس بإن انجلز أرسل له مخطوطة موازية ضمّنها ملاحظاته، لكن المفاجأة الأكبر والأهم، كانت حين فضّ مظروف الرسالة المرفقة، فوجدها من ثلاثة أسطر، يتصدّرها الاعتذار وهي تقول: آسف لم يكن لديّ الوقت لكتابة ملاحظات مكثّفة ومركّزة، فكتبت هذه المخطوطة وآمل أن تفي بالغرض.
دلالة هذا القول المتواضع، إن التكثيف والكتابة المركّزة تحتاج إلى وقت وجهد وصفاء ذهن، وهي نتاج خزين معرفي وثقافي، بحيث يستطيع فيه المرء أن يعبّر عن أعقد القضايا وأدق التفاصيل على نحو مفهوم وواضح وبأقل قدر ممكن من التعبير، وهو أمر يحتاج إلى قدرة وبراعة لا يمتلكها سوى مفكرين من أمثال ماركس وانجلز اللذين نحن بصددهما، وهكذا ترى الجملة أنيقة والكلمة رشيقة والمعنى عميق، سواء كان مجلداً موسوعياً أو مادة للصحافة، فالكتابة فن بقدر ما هي قراءة وعلم ومران وموهبة أيضاً.
تمهيد:
لم أكن بعد قد تعرّفت مباشرة على الصحافي والكاتب الاستاذ عكاب سالم الطاهر، ولكنني كنت أعرفه من خلال عدد من الصحف والمجلات العراقية، وكنت قد قرأت له على نحو متباعد وغير متّصل، حتى هاتفني من دمشق مع رجاء أخوي بطلب تقديم كتابه عن حوارات الحضارات، وهو موضوع طالما شغل اهتماماتي، ولاسيّما في البحث عن قضايا ذات صلة بالفكر السياسي والقانوني الدولي والعلاقات الدولية والإسلام والتسامح، انطلاقاً من المشتركات والمختلفات الإنسانية، وهو الأمر الذي أصبح “فرض عين وليس فرض كفاية”، كما كان في السابق، بل إنه اضطرار وليس اختياراً فحسب، وخصوصاً بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) الارهابية الإجرامية، التي حصلت في الولايات المتحدة في العام 2001، والتي أدّت إلى تفجير برجي التجارة العالمية في نيويورك، واستهدفت مقار رسمية في واشنطن وبنسلفانيا، راح ضحيتها نحو ثلاثة آلاف إنسان بريء.
الوسطية والفرصة الضائعة
وكان الصديق العزيز الاستاذ صلاح عمر العلي قد أخبرني برغبة الطاهر بكتابة المقدمة، ولهذا أبديت استعدادي على الفور، على الرغم من ازدحام جدول عملي، لكن ثمة ظروف خاصة وربما طارئة وأسباب فنيّة هي التي حالت دون اكتمال الفكرة التي اشتغل عليها الطاهر في حينها، حتى نضجت في وقت لاحق وهو ما أخبرني به خلال تكريمي من جانب وزارة الثقافة ممثلة بدار الشؤون الثقافية في بغداد
برئاسة السيد الدكتور نوفل أبو رغيف، بطبع كتابين لي: الأول عن الشاعر الكبير الجواهري والموسوم ” جدل الشعر والحياة” والثاني: عن سعد صالح، الشخصية الوطنية السياسية والأدبية والمعنون ” الضوء والظل- الوسطية والفرصة الضائعة”، وفي خضم هذا الجو الاحتفالي، تقدّم الاستاذ الطاهر ليطلب الكلمة من اللجنة المسؤولة وليفيض بالتحدّث عني بما أستحقه ولا أستحقه.
اكتشفت عكاب سالم الطاهر
كان هذا قبل أن أطلّع على كتاب عكاب سالم طاهر والذي حمل عنواناً مثيراً ” على ضفاف الكتابة والحياة” مع عنوان فرعي ” الاعتراف يأتي متأخراً”، وهو الكتاب المطبوع من جانب مكتبة الدار العربية للعلوم في بغداد، في العام 2014.
وفي هذا الكتاب اكتشفت عكاب سالم الطاهر، ليس إعلامياً وكاتباً فحسب، بل مناضلاً وإنساناً ولديه من فضول المعرفة وشغب الحياة وشغفها، الشيء الكثير، على الرغم من أنه ينتمي لجيل عاش الكثير من الانكسارات والعذابات والمحن، خصوصاً في إطار صراعات ونزاعات وحروب لا عقلانية داخلية وخارجية، بل أستطيع القول أنها كانت تدميرية للآخر وللذات، بسبب قصور النظر والرغبة في التسيّد والزعم باحتكار الحقيقة، وقد دفع العراق جرّاء ذلك النهج الثمن باهظاً، وما زال ينزف دماً غزيراً.واكتشفت في عكاب سالم الطاهر إصراراً لا حدود له على الكتابة، ولعلّ الصحافة كانت تسكنه لـدرجة التغلغل، وحيـن يبتعد عنها اضـطـراراً
وقهراً، يعيش حالة تيه لفقدان حبيبته، فما بالك إذا كانت هذه الحبيبة”صاحبة الجلالة”.
الجوهري من الاشياء
والأكثر من ذلك وجدت فيه نباهة غير عادية حين يلتقط الجوهري من الأشياء، ويكون في ذلك قد أمسك بحكمة البير كامو الذي قال عن الصحافي ” إنه مؤرخ اللحظة”، لهذا لم يكن يريد أن تفلت لحظة من بين أصابعه، فيحاول أن يدوّن ما هو ضروري ثم يبدأ باختيار المثير من العناوين، بحيث يستثمر كل شيء لخدمة الصحافة، عشيقته الأولى، بل عشيقته دائماً، فحقيبة سفره كانت تمتلئ وتفيض أحياناً بما هو جديد. وعرفت عن الطاهر الاجتهاد، ومحاولة لا يدّعيها في الاستقلالية حتى وإن تغلّفت تحت غطاء سميك، لأن الشجاعة لديه قيمة عليا رغم الظروف القاهرة والملابسات العديدة، وقد يكون المنبت الفلاحي أعطاه مثل هذا الهامش، ليجد فيه ملاذاً أحياناً وسبيلاً للزوغان من المساءلة، كما لمست في كتاباته توسلاً بسبل الحياة ومتعها، بقدر ما حمل من همومها ومشاكلها.
لعلّ المحطات التي جاء عليها في كتابه ” على ضفاف الكتابة والحياة- الاعتراف يأتي متأخراً” هي جزء من تاريخ العراق السياسي المعاصر، خصوصاً نصف القرن الماضي، الذي شهد تحولات كبيرة عاشها المجتمع العراقي، من الحرب العراقية – الإيرانية 1980-1988 التي لم يكن لها ما يبرّرها على الاطلاق، إلى مغامرة غزو
الكويت العام 1990، إلى حرب قوات التحالف العام 1991، إلى الحصار الدولي الجائر الذي دام نحو 13 عاماً، إلى الاحتلال عام 2003 وما أعقبه من صعود الموجة الطائفية ولغة المحاصصة والارهاب والعنف، وانعكاسات ذلك على الثقافة السائدة وعليه شخصياً، سواءً أيام فترة الحكم الواحدي الإطلاقي الشمولي، أو خلال انهيار الدولة وما أعقبها من احترابات مذهبية وإثنية.
لكن عكاب سالم الطاهر حاول السير بين الألغام أحياناً وقد لا يكون أمامه من طريق آخر ، متجنّباً هذا وغاضّاً الطرف عن ذاك، مثلما ظلّ يصارع بقلمه في السابق من كوّة صغيرة في النقد، وفي الحاضر من شحّ الفرص والمحاذرة من التصنيف السياسي أو النمذجة الحزبية، و هي محنة جميع التنظيمات الشمولية في الماضي والراهن.
وفاء منقطع النظير
اكتشفت أيضاً لدى الطاهر وفاءً منقطع النظير لرفاقه وأصدقائه وزملائه في العمل، وحتى عندما يريد انتقاد أحدهم فإنه يغمّس كلماته بشيء من المحبة، بحيث يأتي نقده مملحاً ومقبولاً، حتى وإن كان هو المجروح، بل يجد أحياناً الأعذار لمن يلمّح في نقده، وهكذا كانت معاركة ناعمة، بل تكاد تكون مخملية أحياناً، سواء على الصعيد السياسي أو على الصعيد المهني، وهي علامة قوة وليس علامة ضعف، وتلك لعمري سمة إنسانية لا يتمتع بها سوى من يسعى للتطهّر ومراجعة الماضي بصدق، دون أن يعني ذلك ما في تلك النزعة من مجاملة تأتي أحياناً على حساب التجربة والتاريخ والحقيقة، بل والمغالبة مع الهوى الصعب والنفس الحزينة.
اكتشفت في ” الضفاف” ظرافة لا أعرفها عن الطاهر، وتفكّهاً محبّباً واستلطافاً ممتعاً وسخرية جميلة، ربّما يعود بعضها إلى “الحسجة الجنوبية” والتوريات، بين الظاهر والباطن والمعلن والمخفي، والمعنى وضدّه أحياناً، وتلك ما نطلق عليه حمّال الأوجه كما يقال.