23 نوفمبر، 2024 6:36 ص
Search
Close this search box.

ما جدوى الحديث عن الثقافة : عبث التفكير في زمن التكفير

ما جدوى الحديث عن الثقافة : عبث التفكير في زمن التكفير

إذا كان المفكر المصري المعروف (نصر حامد أبو زيد) قد ذاق ذرعا”باستشراء ظاهرة ( التكفير في زمن التفكير) ، وهو الذي كان يعيش في كنف مجتمع أدرك باكرا”قيمة الإحساس (بالشخصية الاجتماعية) واستوعب بإرهاف معنى أن تكون له (هوية وطنية) ، في إطار دولة ترسخت فيها النزعة المركزية ، ونظام تراكمت لديه الخبرة المؤسسية ، وقانون توطدت عنده الهيبة السيادية . للحد الذي إن ذلك كله لم يدرأ عنه ضريبة مواقفه الجرئية ويجنبه ثمن آراءه  الشجاعة ، ليس فقط بتجريده من (مواطنيته) وإلزامه على اختيار المنفى وطنا”له فحسب ، بل وحرمانه من أبسط حقوقه الشخصية ، عبر دعوى التفريق التي أقامها ضده لفيف من الكهنة المعممين يردفهم رهط من دعاة العلم المزعومين . نقول إذا كان الأمر كذلك مع هذا المثقف التنويري والداعية العقلاني ، فما بالك حين نيمم وجوهنا شطر مجتمعنا العراقي الذي لم يبرح يعاني تداعيات ليس فقط تقويض دولته المخترقة وانهيار نظمه المتهرئة واندثار قوانينه المسباحة ، بل انه لا زال قيد الافتقار إلى عناصر (الشخصية الاجتماعية) التي ينبغي أن تزول عند حدودها الخلافات وتنسج في بوتقتها التنوعات ، فضلا”عن جهله التام بمقومات (الهوية الوطنية) التي يفترض أن تعصمه من شتى ضروب الشطط في الانتماءات وتنأى به عن مختلف أنواع الانحراف في الولاءات ، على خلفية تمترس مكوناته بالذهنيات القبلية ، وتشبثها بالولاءات الطائفية ، وانغماسها بالانتماءات العنصرية ، وانهماكها بالاستقطابات الجهوية ، واحتمائها بالعلاقات الاستزلامية . والواقع ، على ما يبدو ، إن الغالبية العظمى من مثقفينا ، بدلا”من أن يقدحوا زناد فكرهم ويشدوا أوتار وعيهم ، لاستيعاب ما يطرحه الواقع من قضايا إشكالية ومواجهة ما تفرزه التجربة من أمور عويصة ، بحيث لم تفتأ تخترق نسيج الكيان الاجتماعي العراقي ، الذي كان يعد بالمواصفات السوسيولوجية المعاصرة ، من أقدر الأنظمة على مقاومة عوامل التآكل وأصلبها ممانعة لمظاهر التشظي . فإنهم لم يكتفوا فقط بالاحتكام إلى منطوق الآية القرآنية الكريمة التي تقول ((وكفى الله المؤمنين القتال)) لإيثار السلامة من عواقب فضح المسكوت عنه والتمرغ بغار الأمان تحاشا”لتبعات تعرية الممنوع القول فيه ، تساوقا”مع روح السلبية الرابضة في لاوعي الإنسان المستلب ، واستجابة لوازع الاتكالية المهيمن على سلوك من دجنت شخصيته وقهرت إرادته فحسب . بل إنهم أسهموا – ولا زالوا – يسهمون في إدامة هذه الشروخ الرمزية في بنى الوعي وأنساق المعرفة ومنظومات المخيال ، من خلال ذلك التشبث الأعمى بالمسلمات القيمية التي اعتراها الوهن وتمسكها بالديهيات العرفية التي طالها النسيان . وكأن جيشان الوضع السياسي وفلتان الواقع الاجتماعي وغليان المكبوت النفسي واستفحال التأزم الاقتصادي لا يعنيها في شيء ولا يلزمها باتخاذ أي موقف أو تبني أية قضية ، اللهم إلا إذا كان صدى تلك الانهيارات ودوي تلك الانخلاعات هو الذي يحفزها للكتابة عن هذه الظاهرة أو تلك ويثيرها للحديث عن هذه الواقعة أو تلك ، بعد أن تكون قد استشعرت مخاطر السكوت على مكاسبها المادية واستفضعت تكاليف الصمت على حضوتها الاعتبارية . وهو ما يفسر لنا غلبة الطابع الانفعالي / الخطابي على أغلب تلك الكتابات ، بحيث يبدو أصحابها وكأنهم يغردون بأفكارهم خارج السرب الاجتماعي المشتت ويحلقون باهتماماتهم بعيدا”عن البيئة المضطربة . والحال إن الحديث عن دور الثقافة في تفعيل النهضة المعرفية المنشودة والتأكيد على وظيفتها في مجال إحداث الغيير الاجتماعي المطلوب ، سيبقى ضربا”من العبث اللفظي والمشاطرة الخطابية ليس إلاّ بين من ينتمون لهذا التيار أو ذاك أو ينضوون تحت جناح هذه الجماعة أو تلك ، ما لم تثمر جهود – فعلا”لا قولا”-  ترميم بنية الواقع الذي أنهكته التمزقات ، وتكلل بالنجاح محاولات رأب الصدوع الرمزية التي أثخنتها الصراعات ، وتأتي أوكلها مشاريع تجسير القطوع التي عززتها الحساسيات . إذ ليست الثقافة ذلك البساط السحري الذي بمجرد أن يتم استحضاره بالقول والتعزيم عليه بالتمني ، قمين بأن ينقلنا من جحيم الواقع إلى نعيم الافتراض ، كما وأنها ليست ذلك الحقل المستقل الذي يمارس سلطانه التوجيهي بمعزل عن أواليات الحقول الأخرى التي يتشكل بفضلها الفعل الاجتماعي وتتكون بتلاحمها الممارسة الإنسانية . إنها وأيم الحقّ ذلك (الجهاد الأكبر) الذي لا تنقصه المكابدة الممضّة ولا يخلو من ألم المعاناة الكائنة وأمل الرهانات الممكنة . ولهذا فقد أجاد المفكر السوري (برهان غليون) في توصيفه لماهية الثقافة حين وجد أنها ((لا تفهم إلاّ باعتبارها مظهرا”للوعي الذي يستوعب الإنسان من خلاله ، فردا”أو جماعة ، العالم ويفهمه ويجعله شفافا”أي قابلا”للتمثيل في الذهن . ولا تفهم أيضا”إلاّ باعتبارها استجابة لواقع موضوعي قائم خارج الذهن يفرض نفسه بصرف النظر عن الفكرة أو الصورة التي يصنعها له الوعي)) . وعليه فما لم يتخلى المثقف عن نزعته التطهرية ويغادر صومعته التعبدية ويسدل الستار على قناعاته التقليدية ، لكي يشرع ، من ثم ، بالانخراط مع الواقع في علاقة قوامها النقد الجرئ والمساءلة العنيدة لكل ظاهرة تحاول ، بسائق ديناميتها الذاتية ، الخروج عن طوع الوعي والتسلل بعيدا”عن رقابة المعرفة . فالجدلية الاجتماعية ، وفقا”لذلك ، لا تفصح عن مكنوناتها العميقة بالمجان ولا تمنح مفاتيح أسرارها الغامضة بالمصادفة ، لكل من يتنطع للحديث عن الثقافة بمعزل عن شروطها الاجتماعية ودينامياتها النفسية ومعاييرها الأخلاقية واشتراطاتها التاريخية ومكوناتها الحضارية . وبقدر ما يرتهن الواقع الاجتماعي المعاش لارتكاسات الشرط البشري وهو في طور انحسار غائيته الإنسانية وظمور نزعته العقلانية ، بقدر ما تغدو وظيفة التفكير عبث لا طائل وراءه وترف لا جدوى منه . وهو الأمر الذي يمكن الاستدلال عليه والتأكد منه عبر ظاهرة العزوف الجماعي لجمهور العامة عن أي تفاعل ايجابي ملموس ، مع ما تشيعه وسائل الإعلام وما تطرحه قنوات الاتصال – التي يبدو أنها أدمنت التعاطي مع هذا الحال دون أن تكترث للعواقب – من موضوعات ذات مضامين ثقافية عامة ومتنوعة (فكرية ، أدبية ، فنية) ، التي وان كانت تستهدف ، على صعيد الوعي اليومي المشوش ، تحرير الواقع من قبضة الفوضى وايقاض العقل من سبات اللامعنى . إلاّ أنها تفضي ، على مستوى اللاوعي الشغال في مضمار السلوكيات والفعّال في ميدان العلاقات ، إلى تكريس مظاهر التوتر السياسي وترسيخ عوامل التذرر الاجتماعي وتأبيد عناصر التأخر الثقافي ، التي باتت تعدّ في الآونة الأخيرة من أبرز معالم المجتمع العراقي المأخوذ بحمى الانقسامات والعصبيات والاستقطابات ، لا في حقول السياسة والاجتماع والاقتصاد والجغرافيا فحسب ، بل وفي حقول التاريخ والدين والذاكرة والهوية أيضا”. وفي ضوء ذلك ينبغي على من يتطلع لولوج رحاب الثقافة أن يتسلح أولا”بالإيمان المطلق والقناعة التامة بمبدأ ؛ إن الثقافة لا تقوم لها قائمة إلاّ بممارسة وظائف النقض والتعرية لكل ما هو مألوف من عادات وثابت من أعراف وبديهي من قناعات ، ليس بناء على محمول هذه الصفات أو الخاصيات من دلالة قيمية في ثنايا الوجدان الشعبي ، وإنما بالمعنى الذي يترتب على فعل الإعاقة لانبثاق المختلف فكريا”وتبلور المغاير مفاهيميا”وتكوين المستحدث منهجيا”، من منطلق إن (( المثقف جدلي ، ناقض / منقوض ، بدلا”من ناسخ / منسوخ ، لا يسجن نفسه بنفسه ، ولا يتوق إلاّ لإخراج الآخر من سجنه ، فلا يجد أمامه سوى المصالحة مع الذات والآخر ، بلا استتباع أو استعباد )) كما جادل الباحث والمفكر اللبناني الدكتور (خليل أحمد خليل) ، الذي ارتأى مضيفا”أن (( يظل المثقف مكلفا”نفسه ما يتحمله الجمهور العادي من قلق وتأزم وشك في المستقبل)) .     
[email protected]

أحدث المقالات

أحدث المقالات