23 ديسمبر، 2024 12:43 ص

ما تيسر .. من القردحة

ما تيسر .. من القردحة

اكثر من زميل علق على تعيين الاعلامي المشهور جورج قرداحي وزيرا للاعلام في لبنان .. وقرداحي هو الذي تعدت شهرته الاعلامية .. شهرة السياسيين والمنظرين والمفكرين ، وحتى الفنانين .
القرداحي .. هو افضل من قدم البرامج العربية المليونية الناجحة .. التي يعدها ويقدمها بشكل مباشر ، وبحضور وتألق ملفت وآسر .
والمقردح هذا .. يمنح الملايين ويتابعه ويتبعه الملايين .. وهي ملايين عفوية وحقيقية .. وليست كمليونية الاحزاب السياسية .. التي تخرج الى الشوارع ، باوامر سلطانية .. مكرهة مرغمة وهي تغني لسعدي الحلي ( ليلة ويوم .. ليلة ليلة ) .
اغلب الظن .. ان زميلنا القرداحي ، غامر هذه المرة بشهرته الشعبية ، ورضخ الى طموحاته الوزارية ، ولم يسلم من سحر المناصب ، ولم يتوخ العواقب .. فاصبح وزيرا للثقافة في زمن لا يهتم احد بشؤونها .. بعد ان خسر اللبنانيون كل شيء .. اقتصادهم وسياحتهم ومدخراتهم وثرواتهم ، وحتى الامل الموعود .. وتحولوا الى طوابير مليونية بحثا عن الخبز والدواء والوقود .
ليس هناك من فخ خطير للمثقف مثل فخ المنصب .. وليس هناك من حسد و لعنة ونقمة ، مثل تلك التي يجلبها المنصب .
قليلون هم المثقفون .. ممن تسنموا المناصب ، وخرجوا سالمين ، منعمين مكرمين .. وقليلون من تركوا المناصب وحافظوا على وجاهتهم و عزتهم . فالمنصب يا سادتي .. ياخذ من المثقف كل شيء .. ولا يعطيه شيء .. ياخذ منه راحته وصحته وعافيته وكتابه وقلمه وعقله ووقته .. وحتى عائلته ولا يعطيه سوى التعب والقلق والارق .
هناك الكثير .. من كتب ونظر وفسر وابحر .. في موضوع ( المثقف والسلطة ) وابرزهم ادورد سعيد .. الذي سخر من المثقف الانتهازي الذي يسعى الى عبادة الرب السياسي .
المثقف المتحوكم .. يتحول و بمرورالوقت من واعظ لنفسه وقرائه ، الى واعظ للسلاطين .. ومن آمر الى عبد المأمور .. ومن صاح الى مخمور .. ومن عقل مفكر الى طرطور .
وقلة منهم .. من حافظ على مكانته وجلاله ورصانته وهيبته.. وهذه القلة من كبار الادباء والمثقفين المؤثرين ، وممن اشتهروا بوقار دورهم وعزة شخصيتهم .
انهم صادقوا وعملوا وتقربوا الى زعماء عظام وتاريخيين .. وليس زعماء الصدفة من تجار الخردة والمخبولين .
اذكر منهم .. الفيلسوف ارسطو الذي جعل من القائد الشاب الاسكندر المقدوني ، تلميذا له يعلمه ويرشده ويحذره من مزالق السلطة .. لكن الاسكندر انقلب على معلمه ارسطو في اواخر حكمه .. والفيلسوف الانجليزي فرنسيس بيكون ، الذي اعتلى اعلى المناصب السياسية في زمن الملكة الازبيث الاولى وظل شامخا ابيا محترما .. لكنه ندم على وقت منحه للسياسة على حساب الفلسفة والكياسة .. اما عقل الثورة الفرنسية فولتير ، فكان مع فردريك الكبير صديقا ناصحا ومثقفا بارعا ، ولم يسلم فردريك من انتقاداته ، واندريه مالرو مع شارل ديغول منسجما و ملهما ووزيرا ، والصحافي المصري محمد حسنين هيكل ، صديقا ووزيرا محترما لعبد الناصر .
والمستخلص من هذا كله .. ان المنصب الحقيقي للمثقف ، هو موقفه الوطني الذي لا يلين ، وعقله الذي لا يستكين ، وما يبدعه من فكر رصين .. يتجلى بتاريخه الحافل بالمواقف والسخاء ، وبنتاجه الفكري المعطاء ، وبنشره لقيم الجمال والتنوير والرخاء .. فهو المؤثر الفاعل الراسخ ، الذي يهابه الحاكم والقائد وحامل الصولجان .. وهو الذي يستقر في بطون الكتب .. وليس على موائد السلطان .