18 ديسمبر، 2024 11:55 م

كانت السهرة العائلية بمنتهى الروعة، صقلت نفسيته ونقّتها من الشوائب التي جمّعتها الأيام في ثنايا الروح، كانت رائقة جداً، لم تحصل منذ مدة طويلة. سهرة ذكّرته بأيام الطفولة في البيت القديم. كانت العائلة تقضي الأمسيات الشتوية حول كانون النار يتسامرون بمختلف الأحاديث، ينتقلون من سماع حكاية إلى شؤون الطقس والأرض، ومنها إلى زواج فلان وخطبة ابن الجيران، وهو منصت مفتوح الأذنين مغلق الفم إلاّ عندما ترتفع درجة التشويق والدهشة من ثنايا الحكاية التي كان يرويها أحد الكبار فيطرح سؤالاً أو يضحك دون أن يردعه أحد، أما عندما تكون الأحاديث عن شؤون الحارة وناسها فالمجازفة بالتدخل أو الاستفسار ستكون نتيجتها الإسكات والتحذير من التدخل مرة أخرى في أحاديث الكبار، إن لم يصل الأمر إلى التوبيخ والطرد من الجلسة. سنوات طويلة مرت على تلك السهرات، سنوات أسوأ ما فيها عقود من الحياة تحت الاحتلال. منذ بداية السهرة ضحكوا من القلب على النكات التي يجيدها الأخ الأصغر، وضحكت الأم ضحكاً لم يره منها منذ زمن، كان وجهها خالياً من الحزن الذي يرتسم عادة على تقاطيع وجهها متداخلاً مع خطوط التجاعيد ومع النظرة الساكنة التي انطفأ فيها ذلك البريق الذي يبان في الصورة المعلقة على الحائط للعائلة أثناء طفولته. كان فرحها مصدر فرح عظيم له، دفع بالحديث إلى ذكريات الطفولة لاستعادة صفاء تلك الأيام ورغبة في رؤية ضحكتها التي اصطادها في هذه السهرة، وتراجع قبل أن يتفوه بالفكرة التي طرأت على باله، ’كم كانت تلك الأيام جميلة رغم صعوبة الحياة، كم كانت جميلة لأنه لم يكن هناك احتلال‘، لجم نفسه حتى لا يعكر صفو فرحها.

بحث في قنوات التلفزيون عن شيء يمكن أن يساهم في استمرار هذا الجو، لا شيء أروع من أن يرى ضحكتها بعد كل الذي مرّ عليها في السنوات الأخيرة، الفقدان واعتقالات الأبناء، وزيارات السجون. توقف عند قناة تبث مسرحية “سك على بناتك” الكوميدية لفؤاد المهندس، ضحكوا ضحكاً حتى أوجعتهم بطونهم على مشاهد المسرحية.

قبل أن تنتهي السهرة، خبا الفرح الذي كان يعلو وجهها فجأة، قالت بقلق” ضحكنا كثير الليلة، الله يستر شو ممكن يحصل هذي الليلة”. بكلماتها عادت بعض الشوائب لتظهر على الروح، فحاول أن يبعدها ويبقي الصفاء الذي حصدته أجواء الليلة. ذهب إلى فراشه بعد أن حاول أن يطمئنها “إن شاء الله خير يا حجة”.

استيقظ على صوت آليات في الشارع، الأذن التي أصبحت حساسة لأخفت الأصوات في الليل التقطت الصوت، نهض سريعاً، أشعل النور الخفيف في الصالون، رآها عند النافذة تسترق النظر باتجاه الشارع من خلال الستارة المسدلة، شاهد سيارتين عسكريتين تقفان في طرف الشارع بعيداً عن مدخل البيت وجنوداً يتحركون. بدأ الطرق الشديد على الباب، اتجه نحو الباب وفتحه، فاندفعوا إلى الداخل، ضابط المخابرات الذي اعتقله في أكثر من مرة كان على رأسهم، طلب بطاقة هويته، ثم بدأوا بتفتيش البيت. كانت تراقب ما يحدث صامتة. اقتربت منه “ولا يهمك يمّا، أنت رجل، خليك قوي”.

انتهى التفتيش، أخذوا بعض الكتب، واقتادوه خارج البيت، وضعوا القيود في يديه، تبعتهم ووقفت في الباب تردد “الله معك”، ثم لحقت بهم إلى الشارع غير عابئة بكلام الضابط الذي يصرخ عليها ويطالبها بالعودة إلى البيت.

صورتها وهي تقف وسط الظلام كأنها تمثال من الصخر لا يتحرك، وصوتها يخترق هدوء الليل “الله معك، أودعتك للي ما يخون الودايع”. الصورة ما زالت مرسومة في رأسه المعصوب بشدة بقطعة القماش التي تغطي عينيه، وصوتها ما زال يتردد على مسمعه مع مسحة الألم التي تحاول إخفاءها، الصورة والصوت رافقاه وهو ملقى على أرض السيارة العسكرية بين أرجل الجند.

هدأ صوتها في أذنيه وهم ينزلونه من السيارة، اقتاده أحدهم، شعر بأنه يدخل مبنى من الدرجات التي صعدها. هدأ الصوت كأنه استجاب لرجائه، يريد أن يلتقط أية كلمة من هنا وكل همسة من هناك يتبادلها الجنود ليعرف أين هو أو ما الأمر، أهو اعتقال للتحقيق أم اعتقال “احترازي” كما يدعون هذه الاعتقالات التي تجري في المناسبات وعندما يشعر المحتلون أن هناك تحركاً محتملاً. عندما أوقفوه في الزاوية وخلعوا العصبة عن عينيه، عرف المكان، إنه مقر الحكم العسكري. الجندي المناوب على مكتب “الأحوال” يتثاءب، لا أمل في التقاط كلمة أو التسمّع على طرف حديث هاتفي. القناة في ذهنه انفتحت مرة أخرى على صورتها وصوتها، تخيّلها ما زالت تقف في وسط الشارع تملأ الفضاء بقامتها المرسومة على خلفية الظلام المضاء ببعض النور المتسرب من شباك الطابق العلوي لبيت الجيران الذين ربما كانوا يختلسون النظر إلى ما يجري.

الصورة التي بقيت إلى جانب الصوت قبل أن يعصبوا عينيه ويلقوه في أرضية السيارة صارت الحرز الذي سيحميه من كل سوء ينتظره، ركز على الصورة والصوت اللذين انتصرا على الوحدة في بهو المدخل ومن ثم غطيا على الغناء النشاز للجندي المناوب، غناء لم يفهم من كلماته أية مفردة رغم رصيده من الكلمات العبرية التي التقطها من حياة الاعتقالات المتكررة. بادلها الصوت بالصوت: لا تخافي أنت معي أخفيك في صدري كي لا يطردوك من هنا.

استعداداً للقادم أزاح كل الأفكار التي كانت تدور في رأسه، وأبقى على “خليك قوي” التي كانت تتردد بصوتها مجدولة مع مقطع من قصيدة أحمد فؤاد نجم التي تستدعيها ذاكرته عند كل اعتقال، ’وانتهى الحلم الجميل… وابتدا الهم الثقيل‘ وأتبعها ’ما تخافيش، ما تخافيش‘.