23 ديسمبر، 2024 9:54 ص

ما بين سقط المتاع وسقط الزند

ما بين سقط المتاع وسقط الزند

-1-
حياتنا العراقية اليوم، حيث تحدرت القيم، ونشطت المضاربات. يبدو من الصعب اقامة حد فاصل بين المعيار بمفهومه الدقيق، والميزان بمفهومه الشامل والفضفاض.. ذلك، ان ضياع الحد الفاصل بين الاشياء يسلبها قوتها ويفرغها من محتواها، ويضعها في دائرة الخلط، ان لم نقل في هامش الاختلال.
لقد اصبحنا نجد قصيدة المعاناة الى جانب قصيدة المدح والتكسب، ورواية العواطف المريضة ازاء الرواية الايديولوجية، وقصة البطولة المعاصرة الى جوار قصة الافتراء على التاريخ.
ولأن مفهوم الميزان طغى على دقة المعيار، فقد اصبح تقييم الاشياء يتم من خلال عقلية الكم لا الكيف مما اوجد تخمة في سوق لا تخضع للعرض والطلب وانما تحتكم الى النوعية وليس الى النفعية.
وهذا الخلاف في الحكم هو السبب الرئيسي في ما نشهده اليوم من جدل عقيم ومساجلات غوغائية ونعوت توزع ذات اليمين وذات اليسار.
لذلك، ليس غريباً ان يشيع سقط المتاع وينضب الحياء من الوجوه الى درجة يتطاول فيها البعض اساتذته، ضارباً عرض الحائط بالحدود الفاصلة بين العلم والجهل، وبين الطول والتطاول.
واصحاب هذا المتاع الرخيص لا يتورعون ان يعلنوا عن ذواتهم تارة من خلال الضجيج المفتعل الذي يثيرونه حول انفسهم، وتارة من خلال المزايدات التي يدفعون الناس اليها دفعاً.
ان سقط المتاع هذا وهو يغرق اكثر من جهة عراقية، تتجلى اعراضه في عجلة الاعلان عنه وفي حالات التشنج والعدوانية، وحشر الانف، وفي مهاجمة الابداعات الاصيلة.
وعلى مستوى السياسة تبرز تلك الاعراض في شكل مفرقعات لغوية، وشعارات براقة تتوسل بعواطف رخيصة زلفى للفقراء والمستضعفين، واستجلاباً للفاكهة المحرمة بهدف تمرير الخطابات المسكونة بأرق المذهبية والطائفية والعزلة…
وهذه الاعراض وغيرها هي السبب الاول في الميوعة التي رانت على المناخ الثقافي والسياسي في وطننا العراق.. وفرضت اصحاب دكاكين سقط المتاع ممن يجمعون اسلاب الذبائح، ويتاجرون في العواطف، وينفخون في تلك الاسلاب، لتدب فيها الحياة مجدداً.
وبما ان سوق المضاربات العراقية نشطت الى حد الاقتتال، فانه اصبح من الممكن بيع وشراء اي شيء مما جعل اصحاب سقط المتاع يشيدون من خلال هذا الواقع المزري شرفات يطلون منها على ذوي الابداعات الخلاقة في غفلة عن المعيار الصحيح وشيوع الموازين المختلفة.
وهذا التداخل بين ما هو اصيل وخلاق وما هو سطحي عالبر جعل زمن القتلة يتسم بالغرابة وبالشذوذ، وحول سقط المتاع الى سلعة رائجة لا يتورع اصحابها عن المناداة بها.
-2-
لا يذكر ابو العلاء المعري كيف اكتوى بالزند، كل الذي يعلمه انه احترق حتى العظم، وان الزند احرقه تساقط منه شعر، هو هذا الذي نبش فيه اليوم باندهاش.
اما هذا الاكتواء، فتبدو صورته من خلال تمزقه بين اليأس والأمل، بين الايمان والانكار، بين السجن والحرية، بين العجز المطلق عن الانسياق وراء الخيال، والحب الفارط لركوب العقل.
ولأن الشيخ نظر الى اللغة نظرة متميزة، فقد مضى في لزومياته ملزماً نفسه ما لا يلزمها في جهد جهيد، دون ان يشعر في كل ذلك كله بالضيق او التبرم، لقد كانت تجربة قهر اللغة من اصعب المعاناة التي تعرض لها ابو العلاء المعري، اذ الحقيقة ان الغربة التي كان يعيشها، والشجون العديدة التي حاصرته في سجونه، حولته من مجرد معبّر باللغة الى محارب بها، وافضت به الى (الفصول والغابات) التي كان ينشدها.
ومن خلال ادراك عميق وصميم للحياة، دخل ابو العلاء في مدارات الاسئلة، غبط الطير والوحوش والهوام على اسلوبها في الحياة، ومدّ بصره الضرير الى ما وراء الكون، يستحضر العوالم الخفية والوقائع الغائبة، ويقدم احكاماً لا تخضع الى معطيات هشة بقدر ما تستنبط قوتها من فهم جدلي يجب ان يكون.
ولأـن سقط الزند مناقض لسقط المتاع، فان ابا العلاء، أكد حقيقة خالدة وهي ان الزند لاهب لعملية الخلق، وان الفنان في احترامه الكبير ينفذ من قشرة الحياة الى لبها. وبقدر ما يكون الزند مشتعلاً يتساقط الضوء الكاشف لتشوهات الحياة.
وعلى هذا النحو يبدو الفرق بين سقط زند وسقط هامد، بين الاكتواء بوهج المعاناة، والاحتراق بغرور اللحظة، ومداعبة الحياة عوض مداهمتها.
ان الكاتب الحق وهو يخوض معركة التغيير، مطالب ان يختار بين ان يحترق ليكون وبين ان يشعل مصابيح الاشتهاء ليتفرج على متاعه الرخيص وهو يتساقط من شقوق الازمنة المهترئة، والاسواق المشبوهة التي لا تفرق بين السقط والسقوط.. سقوط يدفع الكاتب الى الاستغناء عن التجربة، والترفع عن المعاناة، والكتابة وفق ما تمليه عقلية الاسواق المشبوهة، الشيء الذي اوجد عينات من حملة الاقلام وليس حملة الامانة، واغرق السوق بسيل من الكتابات التي لا تحمل من الحروف اي أثر، بل اكثر من ذلك اثار زوابع حجبت الرؤيا وسدت المنافذ.
وليس ثمة شك، في ان هذا الخطب الذي فرق اوصال الثقافة العربية، اوجد بالضرورة حالات من الغثيان تتجلى اكثر في الاعراض عن القراءة، والاشاحة عما يكتب، في مساءلة قلقة ستظل مثار امل ويأس.
[email protected]