22 ديسمبر، 2024 6:57 م

ما بين رومانسية الأفلام ورومانسية السياسة “قرد”

ما بين رومانسية الأفلام ورومانسية السياسة “قرد”

في فيلم مارلين مونرو الشهير “البعض يفضلونها ساخنة” Some Like It Hot (1959)، ظهرت كوميديا متعددة الطبقات، تحتل فيها القصة الفرعية مكانة قد تضاهي أو حتى تتفوق على القصة الرئيسية. وبالرغم من بِنْيَة الفيلم الواهية التي جاءت على غرار الدراما الشكسبيرية القديمة، والتي تدور في فلك قصة رومانسية مكتظة بالمغامرات والمفارقات التي تنبع من حيلة تنكر الرجال في زي نساء، إلا أن الإخراج النهائي للفيلم قد وظف المشاهد بطريقة صحيحة استطاعت أن تضمن النجاح للفيلم على مر السنين. والقصة ببساطة تدور حول عازفان موسيقيان محترفان (توني كيرتس Tony Curtis و جاك ليمون Jack Lemmon) اضطرا للتنكر في زي سيدتين؛ للتواري عن أنظار مجموعة من القتلة الذين يلاحقونهما؛ بعد أن مشاهدة المذبحة التي اقترفوها. ولضمان البعد عن الساحة لأطول وقت ممكن إلتحقا للعمل بفرقة موسيقية مخصصة للبنات فقط.
وبالرغم من شهرة الفيلم الواسعة، إلا أن القصة شبه مكررة ويعوزها العمق. أما الغريب أن قصة الحب الملتهبة بين مارلين مونرو وتوني كيرتس لم تكن محور الاهتمام، قدر ما كانت قصة الحب الفكاهية الهزلية بين جاك ليمون – المتنكر في زي سيدة – والثري الشهير اوزجود فيلدينج الثالث. وتم تخليد تلك الحبكة الفرعية بعبارة شهيرة تتواترها الأجيال لغرابتها في سياق الفيلم وهي “لا يوجد أحد كامل”؛ لأنها كانت رداً من الثري الشهير على مساوئ العروس المستقبلية له، والتي أخبرته في النهاية أنها رجلاً وليست إمرأة. فمساوئ ونقائص أبطال القصة الفرعية كانت من أهم عوامل الجذب لدى المشاهد والتي حولت مارلين مونرو في الفيلم لمجرد وجه جميل مكملاً للحبكة الدرامية، لدرجة أنه قصتها الرومانسية الرئيسية مع توني كيرتس قد توارت في أذيال القصة الفرعية.
ومن المدهش أن ذلك التكنيك يظهر على أرض الواقع في العديد من مناحي الحياة، وخاصة السياسية منها، بل وكانت هنالك حكاية واقعية مشابهه لبنية أحداث الفيلم، وإن اتخذت شكل آخر أكثر جدية. ففي البرازيل في عام 1988، وتحديدًا في مدينة ريو دي جانيرو، تقدم 12 شخصًا لانتخابات محافظ المدينة، حصل أحد المرشحين على المركز الثالث بإجمالي عدد أصوات 400 ألف صوت في سابقة هزت العالم بأكمله وتناقلتها الصحف العالمية، وتم تسجيلها في موسوعات الأرقام العالمية بالرغم من أن المرشح لم يفوز بالانتخابات، ولم يحقق عدد أصوات غير مسبوق. لكن المفاجأة أن هذا المرشح الذي يدعى “سباستياو” – أو كما كان يُطْلَق عليه “تياو” – كان قرد بحديقة الحيوان من فصيلة الشيمبانزي. ففي حقبة الثمانينات، كان القرد “تياو” يحظى بشهرة واسعة والتي لم يكن مصدرها تميُّز فصيلته أو حجمه؛ فلقد كان شيمبانزي من فصيلة عادية، وطوله 150 سم ووزنه 70 كج فقط. وعلى عكس المتوقع، جنى تياو شهرته الواسعة وتميُّزه من “سوء أخلاقه”؛ فلقد كان قرد عصبي وسئ المزاج ، يقذف جمهور الزُوَّارُ بالطين وقشر الموز وفضلاته، والتى قذفها ذات يوم على محامي وسياسي شهير. أثارت تلك الواقعة لدى الجمهور فكرة أن الشيمبانزي “تياو” يعي الأمور السياسية؛ لأنه كرس جهوده لإهانة هذا المتحاذق. ومن ثمَّ، تبنت صحيفتان هزليتان حملة كبيرة الغرض منها الترويج لانتخاب الشيمبانزي “تياو” لمنصب عمدة مدينة ريو دي جانيرو. والهدف من الحملة لم يكن للسخرية فقط، ولكن لإيجاد وسيلة لإبطال أصوات الناخبين الغير راضين عن المتقدمين للترشيح. ولما كانت الانتخابات في البرازيل ورقية، بحيث يضع الناخب اسم مرشحه بالورقة ثم يضعها في صندوق الاقتراع، أخذ الناخبين في كتابة اسم الشيمبانزي “تياو” بدلًا من أي مرشح؛ كوسيلة ناعمة للاعتراض على ما هم في سدة الترشيح.
وإمعانًا في حبك القصة، حاولت الصحيفتان الهزليتان تقديم أوراق الشيمبانزي “تياو” رسميًا للترشيح في الانتخابات؛ لعدم وجود مادة في القانون تمنع ترشيح أي كائن غير آدمي في الانتخابات. ودون أدنى شك، رفضت الجهات العليا أوراق الترشيح لأن شرط آدمية المرشح مفهوم ضمنًا بشكل صريح. لكن استمرت الصحيفتان في الحملات الدعائية والانتخابية المؤيدة للشيمبانزي. وبعد فرز نتيجة التصويت، حصل الشيمبانزي “تياو” على أكثر من 400 ألف صوت، مما جعله يعتلي الترتيب الثالث بين المرشحين.
دون شك تعاملت لجنة الفرز على بطاقات التصويت لصالح الشيمبانزي “تياو” على أنها أصوات باطلة، لكنها على النقيض أدخلته موسوعة الأرقام القياسية لكونه القرد صاحب أكبر تصويت لصالحه. أما الشيء المدهش أن من فاز بمنصب العمدة في هذه الانتخابات كان نفس المحامي المتحاذق الذي قذفه “تياو” بفضلاته، مما أكسب الشيمبانزي صيت بقدرته على استبطان الأمور السياسية والتكهن بمستقبل الساسة. وبعد الانتخابات تحول “تياو” لشخصية عامة، ذو مكانة مرموقة في حديقة الحيوان، وتمتع بمقر خاص؛ لأن الإقبال على زيارته تضاعف لمئات المرات، مما جعله يعيش حياة رغدة من الشهرة والسلطة حتى وفاته في 23 ديسمبر 1996. فلقد صار القرد النجم محط الأنظار الذي غطت شهرته على نقائص عمدة ريو دي جانيرو، مما أكد مقولة “لا يوجد أحد كامل”.
وقصة القرد السيء الطباع والمزاج مع عالم السياسة بالرغم من كونها قصة فرعية، إلا أنها عملت على تحويل الأنظار عن القصة الرئيسية، وهي عدم صلاحية المرشحين. أي أن إلهاء المواطن وتحويل دفة تفكيره من موضوع لآخر صار أمراً إعلاميًا يسيرًا. للتعتيم على أمر خاطئ، يقوم الإعلام بإلهاء الجمهور من خلال تصدير قصة براقة حتى وإن كانت جوفاء، لكن من شروطها أن تحدث ضجيج وصدى واسع سواء بالشجب أو بالقبول. وبينما يكون الجمهور مشغولون بتلك القصة القعقاعة، يتخذ القائمون على الأمور خطوات واسعة لتمرير أفكار أو تكنولوجيات أو قوانين أو حتى حروب/اتفاقيات والشعوب في حالة من الإلهاء والاستمتاع بالمشاركة في قضية هزلية تخدر عقولهم وقدرتهم على التميز.
ولا يقتصر الأمر على إحدى الدول أو الحكومات عينها؛ لأن المنظومة الإعلامية الحديثة تم بناؤها على تمرير كل ما هو غير مستساغ، وترسيخ جذوره من خلال شن حملة هزليية أو مضادة. ولعلنا جميعًا نذكر أن أغاني المهرجانات تم الترويج لها ودُفِع مطربيها لقمم المجد من خلال حملات دعائية مناوئة لكلماتها. فالواقع لمرير صار كالأفلام السيئة التي تضمن نجاحها من خلال قصص فرعية تكتسب اهتمام يغطي على رداءة القصة الرئيسية حين مشاهدة الفيلم، لكنها في النهاية تخدم نجاح القصة الاستراتيجية المعنية، والتي يقتل فوزها أي قصص فرعية أخرى. واقع القرود والإلهاء هو فيلم سيء واسع النجاح.