7 أبريل، 2024 8:37 م
Search
Close this search box.

ما بعد انهيار … المشروع الاشتراكي – ١

Facebook
Twitter
LinkedIn

تراجع الصين الشعبية عن البناء الاشتراكي وتراجعها نحو الرأسمالية نهاية سبعينيات القرن الماضي ثم بعد ذلك بعشرة سنوات تفكك مجموعة دول المنظومة الاشتراكية وانتقالها نحو الرأسمالية كانت له عواقب خطيرة على حاضر ومستقبل الحركة الشيوعية العالمية بصورة عامة وعلى قضية الاشتراكية كبديل وحيد للرأسمالية خاصة. وبفقد تلكم المركزين الشيوعيين فقدت الحركة الشيوعية والوطنية في البلدان النامية حليفين صادقين في الكفاح ضد التخلف الاقتصادي والهيمنة الاجنبية ومرجعية فكرية نظرية ذات تجرية غنية في فهم وحل المعضلات الفكرية التي واجهتها اثناء صياغة وتنفيذ سياساتها الكفاحية اليومية. وبغياب تلك المرجعية فقدت الاحزاب الشيوعية بوصلتها فلم تعد قادرة على تحديد المهمات المركزية التي يجب ان تناضل من أجلها لصالح شعوبها ومن بينها وأهمها قضية بناء الاشتراكية.ه.

وكنتيجة لذلك أعادت غالبية الاحزاب الشيوعية والعمالية في البلدان الأخرى النظر في برامجها للتغيير السياسي والاقتصادي فألغت هدف السعي للاشتراكية وتوقفت عن تثقيف منتسبيها باهميتها كنظام للحياة يضمن للطبقة العاملة والكادحين حقهم في الاطاحة بالسلطة البرجوازية والحلول محلها تمهيدا لتأميم وسائل الانتاج وادارته وتوزيعه بما يخدم مصالحهم بكونهم المنتج الحقيقي للخيرات المادية والروحية. وتخلت كذلك عن أهمية العمل على توفير الشروط الأساسية السياسية والاقتصادية تمهيدا للانتقال للاشتراكية تلك الشروط التي لا تتحقق عفويا بل عبر التعبئة الفكرية النظرية للشيوعيين والزج بهم في نضالات سياسية يومية وتعزيز دورهم الرقابي على أداء السلطات الحكومية البرجوازية .

وجراء الذهول وعدم التصديق بحقيقة انهيار المشروع الاشتراكي السوفيتي لم تنتظر طويلا قبل ان تقرر تغيير وجهة نضالها السياسي وتبني شعارات الاحزاب البرجوازية كالديمقراطية والعدالة الاجتماعية والمساواة وهي شعارات رغم أهميتها وراهنيتها لم تعد تعني شيئا في ظل اتساع ظاهرة البطالة و شحة فرص العمل وانتشار الفقر والتشرد بين الناس. ففي ظل الاستقطاب الطبقي الذي يستحوذ فيه قلة من أرباب العمل والمال على سلطة القرار السياسي والاقتصادي وعلى الحصة الأكبر من الناتج الوطني وثروات المجتمع يصبح من الملح حشد الرأي العام العمالي والجماهيري للنضال من أجل إحداث تغيرات سياسية جذرية تستأصل أسس النظام الطبقي واحلال النظام السياسي الديمقراطي الذي تلعب فيه الطبقة العاملة وحلفائها دورا حاسما يعيد توزيع الدخل والثروة في صالح اكثرية المجتمع تمهيدا للانتقال للنظام الاشتراكية . .

لقد أعطى هذا التغيير في مواقف الأحزاب الشيوعية الانطباع بأن الأحزاب الشيوعية في البلدان المختلفة لم تكن حرة فيما تتخذه من برامج سياسية واقتصادية وما تتبناه من شعارات تعبوية يومية بل مسيرة من قبل الاتحاد السوفيتي في حينه. فهي شيوعية ما دام الاتحاد السوفيتي كذلك وتتخلى عن شيوعيتها في حالة تخليه هو عنها وكأن التضحيات الجسيمة في الآرواح والممتلكات التي قدمتها الجماهير الشعبية من أجل تحرير أوطانها وثرواتها الوطنية من الهيمنة الأجنبية وضد الحكومات الديكتاتورية وارباب العمل لتعزيز حقوق الشغيلة وتحسين ظروف العمل و مستوى الأجور والمنافع الاجتماعية كانت بأوامر من السلطات في موسكو.

مثل هذا الانطباع طالما رددته الأوساط الغربية والرجعيات المحلية في البلدان التي تنشط فيها احزاب شيوعية وحركات تقدمية وديمقراطية وهو ما جبلت على نفيه الاحزاب الشيوعية ذاتها وجماهيرها.التفسير المنطقي للحالة الراهنة التي وجدت الحركة الشيوعية ذاتها فيها هو انها والاتحاد السوفيتي شكلا كيانا واحدا احتل الأخير فيه دور القلب. لكن بغياب الاتحاد السوفيتي أصيب الكيان الشيوعي بالوهن فضعفت قواه وشلت حركته وأصابها الخمول وهذا بالضبط ما يفسر واقع حال الأحزاب الشيوعية اليوم لمختلف البلدان. وما ينصرف على الحركة الشيوعية انصرف على حركة اليسار الشيوعي والتقدمي ، فبعض أجنحته ربطت مصيرها بانشطة الاحزاب الشيوعية وبقيت لصيقة بها ، بينما اختارت أخرى العداء للحكومات الاشتراكية تارة لكونها سلطات ستالينية وتارة أخرى كونها رأسمالية دولة احتكارية بينما اختارت أخرى الاصطفاف مع الحكومات الرأسمالية الرجعية ضد النظام الاشتراكي القائم حينها.ة..

الانكفاء عن النشاطات السياسة والفكرية الذي اتسمت به مواقف كثرة من الأحزاب الشيوعية والعمالية والتيارات اليسارية في مرحلة ما بعد الاشتراكية لم يلغيه أو يغيره الهجوم المتصاعد من قبل الحكومات الرجعية ضد مكتسبات الطبقة العاملة في بلدانها التي تحققت لها أثناء وجود النظام الاشتراكي. كما ان الأزمة الاقتصادية للراسمالية العالمية التي بلغت ذروتها في

عام 2007 – 2008 لم تحفز الشيوعيين الحاليين على تجاوز المواقف اللا ابالية تجاه التشرذم الحالي الذي تعاني منه احزابهم في حين يتطلب الظرف السائد توحيد جهود كل الشيوعيين في قيادة واحدة تكرس جهودها السياسية والتنظيمية لاستعادة موقعهم في قيادة النشاطات الجماهيرية ضد البطالة والعوز ولوقف الهجوم على مكاسب الطبقة العاملة والحريات الديمقراطية التي تحققت عبر السنين. فمجانية التعليم والرعاية الصحية والتعويض أثناء حوادث العمل وتحديد ساعات العمل اليومي و ايام العمل الاسبوعية هي مكاسب تحققت بعد تضحيات جسيمة وهي الآن مهددة بالضياع اذا لم تشدد النشاطات التضامنية مع القوى العاملة في مواقع العمل وهو الميدان الذي كان للشيوعيين فيه حضورا واضحا.

وخلال العقدين الماضيين جرت محاولات هامة لكنها محدودة للم شمل الحركة الشيوعية العالمية التي بدت أكثر استعدادا للانقسام لا للتوحد. فبناء على دعوة الحزب الشيوعي اليوناني عقد ممثلو عدد من الاحزاب الشيوعية هي البرازيل وجنوب أفريقيا وروسيا والبرتغال وكوبا لقاء لهم في العاصمة اليونانية أثينا عام 1998 للتباحث في عقد لقاء للاحزاب الشيوعية في العالم لدراسة الموضوعات التي تهمهم في بلدانهم وفي العالم. وقد جرى الاتفاق على توجيه دعوات لكافة الاحزاب الشيوعية لعقد مؤتمر لهم عام 1999.وقد لبى الدعوة72 حزبا شيوعيا وعماليا من 59 بلدا من مختلف قارات العالم علما أن بعض البلدان المدعوة مثلت بأكثر من حزب شيوعي واحد وهي ظاهرة لم تمر بها الحركة الشيوعية منذ ثورة أكتوبر..

فقد مثل بلغاريا وروسيا واسبانيا أربعة أحزاب شيوعية لكل منها بأسماء مختلفة وتركيا والمكسيك ثلاثة احزاب شيوعية ولكل من البرازيل ولوكسمبرك و الهند وسوريا وايرلندا وصربيا والدنمارك والهند وبنغلادشت وايطاليا وفلسطين وبيرو وكولومبيا والفلبين وبلجيكا حزبان. ومن بين الاحزاب الغربية التي حضرت بشكل منتظم أكثر المؤتمرات منذ عام 1999 هي الحزب الشيوعي الكندي والحزب الشيوعي البلجيكي والقبرصي والكوبي.ومن بين الدول العربية التي ساهمت احزابها الشيوعية في عدد من المؤتمرات هي فلسطين و العراق ومصر والجزائر ولبنان والبحرين وتوالت بعد ذلك اللقاءات لتصبح تقليدا ينعقد بموجبه مؤتمرا سنويا للأحزاب الشيوعية والعمالية في عاصمة أحد الأحزاب التي شاركت في المؤتمر الأول كان آخرها المؤتمر الثامن عشر في العاصمة هانوي في فيتنام الديمقراطية عام 2016.

ان مثل تلك اللقاءات رغم اخفاقها في اعادة الوحدة للاحزاب الشيوعية المنقسمة على نفسها لكنها رغم ذلك شكلت فرصة مهمة لتوثيق الروابط بين الأحزاب الشيوعية اضافة لتبادلها التجارب وتأكيد التضامن الأخوي مع الأحزاب والشعوب التي تخوض كفاحا يوميا ضد التعسف والاستتغلال الطبقي الذي تمارسه حكوماتهم الرجعية الديكتاتورية ضدهم. وتزداد أهمية وحدة الحركة الشيوعية العالمية في الظروف الراهنة لتشديد النضال ضد دعاة الحرب حيث تتزايد مخاطر الانزلاق نحو حرب عالمية ثالثة تهدد بنهاية الحياة على كوكبنا.

فالصدام النووي بين حلف الناتو بقيادة الولايات المتحدة وبين دول روسيا والصين الشعبية يلوح في الأفق ، حيث هناك العديد من المؤشرات على زيادة وتحديث الترسانة النووية في كل الدول الموقعة على معاهدة عدم انتشار وزيادة انتاج السلاح النووي. وكذلك عن تحركات عسكرية امريكية وعن توزيع قواعد صواريخ باليستيكية محملة باسلحة نووية تاكتيكية في القواعد الامريكية المحيطة بروسيا وعلى حدودها في أوربا وعلى الغواصات المرابطة في البحار المحيطة بروسيا. وحاليا دفعت الولايات المتحدة بقافلة من سفنها البحربية نحو بحر الصين الجنوبي بمحاذاة الشواطئ البحرية للصين وضمن الجرف القاري الصيني مما دفع الصين لارسال سفن عسكرية للمنطقة ذاتها في استعراض للقوة دفاعا عن حقوقها وأمنها.

وفي الوقت ذاته تزداد عدوانية الولايات المتحدة واصرارها على ارتكاب حماقة ضد روسيا في سوريا وضد ايران تنفيذا لرغبة المجمع الصناعي \ العسكري وتجار السلاح الذين يخاطرون بأمن العالم من أجل المزيد من الأرباح. وفيما يخص شعوب الشرق الأوسط و سائر أرجاء العالم فإن هذه التطورات تحمل مخاطرلا يمكن ولا ينبغي التقليل من تهديدها المباشر للاستقرار في العلاقات الدولية. ولا يمكن مواجهة هذا التهديد ولجمه إلا عن طريق بناء حركة جماهيرية مناهضة للحرب توحد الطبقة العاملة العالمية على قاعدة النضال ضد السياسات الرأسمالية الإمبريالية ومن أجل إعادة وحدة ونقاوة الحركة الشيوعية العالمية التي بدونها لا يمكن انتصار الاشتراكية واستتباب السلام والأمن العالميين .

في فترة تصاعد الثورة المضادة ضد النظام الاشتراكي في الفترة 1985 – 1990 عقدت ندوة فكرية سياسية في الولايات المتحدة في الفترة 12 – 14 من شهر اكتوبر من عام 1990 حول موضوع ” مستقبل الاشتراكية “. نظمت الندوة بجهد مشترك من جانب المجلة الشهرية الماركسية وكلية هنترللماركسية في مدينة نيويورك يرأس تحرير المجلة البروفيسور بول سويزي 1910 – 2004. وفي عام 1950 تعرضت للتحقيق ادارة تحريرالمجلة اعتقل بنتيجتها رئيس التحرير وعددا من محرريها أبان موجة ملاحقة المثقفين التقدميين بتهمة الشيوعية فيما عرف حينها بحمى المكارثية ، لكن المجلة عاودت نشاطها كمنبرفكري ماركسي تحت اشراف ومساهمة ذات الاساتذة الجامعيين المسؤلين عن تحريرها. .

لقد حضر الندوة 450 مندوبا لمنظمات سياسية يسارية وأحزاب شيوعية غالبيتها مثلت التيار الاصلاحي عدا حزيي جنوب افريقيا وكوبا .قد استهل المناقشة البروفيسور بول سويزي رئيس تحرير المجلة بتوجيه السؤال : هل الاشتراكية والماركسية فشلتا…؟

فأجاب : ” لا , الماركسية ما تزال صحيحة وهي ما تزال المفسر الأفضل المتاح ، لكنها لم تفسر كيف تتجاوز التحدي. المشكلة مع المحاولات الاشتراكية السابقة أنها حصلت في دول أقل تطورا

وفي مناخ عالمي غير ملائم ” . لكن البروفسور سويزي توقف عند هذا ولم يوضح ماهية المناخ العالمي غير الملائم وكذلك فعل المتحدثون الآخرون عدا واحدا سنعود لما قاله فيما بعد. م.

كان ذلك في عام 1990عندها لم تكتمل خيوط المؤامرة بعد ، لكن كان واضحا ان النظام السياسي السوفيتي بدأ في التفتت بنفس الوقت الذي بدأت فيه أكبرعمليات نهب وتهريب لممتلكات الدولة في التاريخ الحديث. فبينما كانت المؤامرات السياسية لنقل وتوزيع السلطات الجديدة في نظام ما بعد الاشتراكية كان ممثلوا الشركات الغربية ومصارفها الكبرى يوقعون عقود شراء الصناعات والمؤسسات الاشتراكية بابخس الاثمان. وبموازاة عمليات بيع الممتلكات كانت عمليات تهريب ما أمكن من الاحتياطي الذهبي والنقد الاجنبي من البنك المركزي السوفيتي الى الخارج وايداعها في حسابات خاصة بالاتفاق مع ادارة بنوك غربية ضمنت لاصحابها حقوق الاقامة واالحماية ضد محاكمتهم من قبل دولتهم واستعادة الثروات التي سرقوها فيما لو قررت ذلك مستقبلا . وبحسب علمي ان رئيس جمهورية روسيا حينها يلتسن كان ضالعا بعمليات النهب وأنه أخذ تعهدا من الرئيس الحالي فلاديمير بوتين قبل أن يكلفه برئاسة الحكومة حينها بعدم ملاحقة أفراد عائلته الذين غادروا البلاد الى أوستراليا في وقت سابق بصحبة ثروة تقدر ببلايين الدولارات.

اليوم تكون قد مرت 73 عاما على قيام اول دولة اشتراكية عام 1917 ومنذ ذلك الحين بدأت محاولات افشالها من قبل الدول الرأسمالية وهو ما قصده ولم يوضحه البروفيسور بول سويزي بالمناخ العالمي غير الملائم. وخلال تلك الفترة ايضا تم افشال كافة محاولات قيام دول اشتراكية في اي مكان في العالم. ولم يتوقفوا عند هذا بل قاموا بمنع أو اسقاط أي حكومات وطنية ذات قيم اشتراكية في دول العالم الثالث حتى لا تكون مثالا يحتذى من قبل دول أخرى ونحن شهود على الحصار الاقتصادي والسياسي المفروض على جمهورية كوبا منذ قيامها عام 1959 .ت .

نجاح النظام الراسمالي العالمي والرجعية المحلية في تحقيق الانتصار على النظام الاشتراكي لم يتم في يوم وليلة بل استغرق عقودا من الجهود المدروسة والمنظمة ركزخلالها على نشر البلبلة السياسية وعدم اليقينية الفكرية بالماركسية والاشتراكية داخل القيادات السياسة للاحزاب الشيوعية والعمالية في البلدان الاشتراكية السابقة وشعوبها ومنظماتها الاجتماعية بما فيها اتحادات نقابات العمال وجماهيرها. اقترن ذلك بسياسة اعلامية مكثفة ومستمرة ساهم بها جيش من الاعلاميين والمنظريين الفكريين الذين وضع تحت تصرفهم آلاف الصحف و مئات القنوات الاذاعية المسموعة والمرئية تنشرسمومها على مدار الساعة لمدة 24 ساعة في اليوم.

كما جندت للمهمات ذاتها منظمات تنشط داخل البلدان الاشتراكية تحت عناوين انسانية وديمقراطية. كل ذلك كان أدلة دامغة بأن الاشتراكية لم تفشل ، بل افشلت ، وان الماركسية ما زالت نظرية الطبقة العاملة وسلاحها لتحطيم النظام الرأسمالي والبناء على أنقاضه دولتهم الاشتراكية القادمة. الاعلام البرجوازي يروج الاكاذيب بان ما حصل كان لابد أن يحصل بسبب عدم كفاءة الماركسية كنظرية هادية لتطبيق الاشتراكية. ومع كل الأسف والحزن أن الكثير من المثقفين التقدميين والجماهير الشعبية الواسعة قد وقعت ضحية لتلك الحملة الاعلامية المفبركة ضد الاشتراكية ودولها السابقة.ة.

السياسات الداخلية الاجتماعية والاقتصادية التي نفذتها السلطات الاشتراكية عبر سنين وجودها كانت في غالبيتها سليمة وصحيحة وحققت نجاحات هامة في مناحي كثيرة من الحياة ارتفع بنتيجتها مستوى حياة المجتمع الاشتراكي. الاقتصاديون الموضوعيون في الغرب غير المتحييزين للأوساط الرجعية الحاقدة تحدثوا عن نجاحات الاشتراكية واخفاقاتها بحيادية بينما تجاهلت ذلك كلية وسائل اعلامهم المعادية للاشتراكية.

ومن الموضوعية اعادة التذكير بحقائق لم تؤخذ بالاعتبارمن قبل الماركسيين تجاهلا أو سهوا أو بسبب عدم إحاطتهم بواقع ما كان يواجه عمليات بناء الاشتراكية في دولها السابقة حيث كانت هناك أخفاقات في تنفيذ سياسة البناء الاشتراكي بسبب حداثة التجربة الاشتراكية. فالاقتصاد الاشتراكي حديث الوجود كما نعلم نحن الاقتصاديون حيث لم تكن له نظرياته وعلومه التطبيقية عند بدء البناء الاشتراكي. لقد كان الكثير من المثقفين الماركسيين بين قادة ثورة أوكتوبرعام 1917 لكن كان ينقصهم الكثير من المتخصصين في العلوم الاقتصادية ، كما لم تكن للاقتصاد الاشتراكي كتبه وتحليلاته فالتأليف والنشر كان محدودا وبدأ بالانتشار خلال بناء الاشتراكية وليس قبلها والحال نفسه مع اساتذة الاقتصاد والتخطيط الاقتصادي. اما التخطيط الاقتصادي الذي شكل حجر الزاوية في البناء الاشتراكي فقد بدأ بتجارب تخطيطية ، لأنه لم تكن له اقسامه العلمية وتفرعاته المتخصصة في الجامعات كما هو الحال مع الاقتصاد الراسمالي. ه.

وقد تطلب التأليف في مجال الاقتصاد الاشتراكي والتخطيط الاقتصادي عقودا قبل ان تكون له اقسامه العلمية في الكليات والجامعات ، ان كل ذلك خضع لامتحانات صعبة واخفاقات في التطبيق العملي وما نتج عن ذلك من خسائر مادية وخيبات أمل دفع ثمنها غاليا السياسيون في تلك المرحلة من البناء الاشتراكي. اما التخطيط الزراعي فكان ميدانا لتجارب مريرة ما زالت موضوعا للدعاية المضادة ضد الاشتراكية وقادتها حتى اليوم التي حملت قيادة ستالين حينها مباشرة لأن الحكومة السوفيتية في عهده كانت أول من بادر الى أدخال اسلوب التخطيط في ميدان انتاج الغلال.

البروفيسور بول سويزي في تقديمه المتحدث الاخير في الندوة المشار اليها في السطور السابقة قال : ينبغي على الاشتراكيين توجيه الاهتمام لمستقبل الرأسمالية عندما يبحثون مستقبل الاشتراكية. فهناك اتجاه في المعتقد يقلل من المصاعب التي تواجه الراسمالية حاليا. فالراسمالية ربحت الحرب الباردة وتمكنت من الاطاحة بالاشتراكية في الاتحاد السوفيتي واوربا الشرقية التي لم تكن اشتراكية مع ذلك اذ كانوا في الواقع قد بدئوا ببنائها. الرأسمالية من الناحية الأخرى ليست في احسن حال وفي حال أسوء في العالم الثالث.

الولايات المتحدة وهي البلد الأقوى هي في بداية مرحلة من مراحل الركود الاقتصادي وهو مؤشر على ان الأحوال ستكون أسوء في السنين المقبلة. اي شخص يتصور انه على معرفة بما يجري داخل الرأسمالية من خلال الكتابات المنشورة من قبل الاقتصاديين البرجوازيين وعلم الاجتماع هم ببساطة يخدعون أنفسهم. الطريق الوحيد لمعرفة ما يجري هو العودة الى التحليل الماركسي الذي له تاريخ طويل في التعامل مع مشاكل الاحتكار الراسمالي والامبريالية. مثل تلك التحليلات استندت حول فكرة الرأسمالية الناضجة ( أعلى مراحلها) التي تمر بحالة من الركود المتزايد وتضييق فرص الأرباح وهذا ما قاد الى الاحتكار والانفجار المالي وعولمة الاقتصاد. ان الذي لا يفهم ما يجري حاليا في عالم النظام الراسمالي فانه سيواجه مختلف أشكال التشوش السياسي والفكري ( انتهت مداخلة سويزي).

وفي المداخلة التي اداها استاذ علم الاجتماع الأمريكي البروفيسور مانينغ مارابل ذكر فيها ان انهيار الاشتراكية أدى الى هيمنة راسمالية المحافظين الأرثودوكس الذين أعلنوا الانتصار وموت الماركسية والاشتراكية. لقد ادى هذا بعدد من الاشتراكيين الى التراجع الى ما قبل الماركسية ونفي حقيقة ان الصراع الطبقي يقرر العلاقات الاجتماعية. ففقدان الوزن الذي كان يحتله الاتحاد السوفيتي ضد الغرب كان له اثره البالغ على العالم الثالث. لقد جعل هذا الفقدان من السهل على الشركات متعددة الجنسية ان تهيمن وتستغل وتحول حركة عدم الانحياز الى حركة لا معنى ولا دور لها. وتحول الحركات الاجتماعية في الدول الاشتراكية السابقة الى حركات رجعية ما تلبث ان تنقلب على النظام الحالي لعدم انسجامها معه. وعلى أثر قمع حركة الطبقة العاملة في الولايات المتحدة تساءل الاستاذ مانينغ : هل الماركسة ما تزال أداة تحليلية رصينة للوضع السياسي – الاجتماعي الحالي؟

فأجاب : نعم ماتزال. فكفاح الطبقة العاملة ما يزال ضروريا كاداة لمواجهة الاستغلال والانقسام الطبقي وعدم المساواة وهو ما يزال في اعماق المجتمع الأمريكي. نحن شهود على بداية فصل جديد حيث تدخل الولايات المتحدة أزمة يخوضها الأغنياء ضد أكثرية المجتمع.. اما فيما يخص شعوب العالم الثالث فان اختفاء الاتحاد السوفيتي كداعم للدول النامية التي اعتمدت على دعمه اقتصاديا وسياسيا لم يعد موجودا. اليوم لا تجد دول العام الثالث من يدعمها وعليها ان تعتمد على نفسها أو تتعاون مع بعضها البعض. فالعالم بعد زوال الاتحاد السوفيتي اصبح في ليلة وضحاها غير العالم في وجوده. لقد توجت الولايات المتحدة نفسها سيدة العالم وعندما باشرت بفرض مشيئتها على دول العالم صغيرها وكبيرها كممتلكات كولينيالية فعلى الأخيرة قبول الواقع الجديد والاصغاء للشرطي الجديد الذي يتصرف منذ ذلك الوقت ” كثعلب في حظيرة للدجاج “.

وأنهى البروفيسور مانينغ مداخلته قائلا : الديمقراطية لا تعني فقط الحقوق السياسية ، انها تعني تغيير النظام الاقتصادي السائد لضمان حصول المحرومين على حقهم في العمل والسكن والرعاية الصحية والتعليم واساسيات الحياة المعيشية. الدروس المستخلصة من التاريخ تعلمنا بأن تحقيق الاشتراكية لاينتهي باطاحة السلطة البرجوازية بثورة أو بانقلاب فرغم أهمية هذا الانجاز هناك ماهو أكثر اهمية وصعوبة وهو الوصول الى الأهداف التي من اجلها قامت السلطة الاشتراكية وعليها يعتمد مستقبل الاشتراكية في العالم.

: لمزيد من الاطلاع يراجع

*- WikipediA\ The Free Encyclopedia , Labour and Communist Parties Meeting in Athens , Greece 1998

**- Mike Morris ‘ The Future of Socialism ‘ Michigan State University,Transformation 14 , 1991

***- Paul Sweezy , The Commetment of Intellectual, Monthly Review , An Independent Socialist Magazine..

 

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب