18 ديسمبر، 2024 5:56 م

ما بعد الصهيونية، بمعنى آخر: تفكيك إسرائيل

ما بعد الصهيونية، بمعنى آخر: تفكيك إسرائيل

التفكيك يضمنه استمرار المقاومة الميدانية، وغطاء سياسي يلح على العوامل الأخلاقية، ومنها تأكيد اليونسكو في 2 مايو 2017 قراراتها السابقة التي تنص على أن إسرائيل محتلة للقدس، وترفض السيادة الإسرائيلية عليها.
في 12 يناير 2010 أطلق رئيس لجنة العلاقات الخارجية والشؤون العربية بمجلس الشورى مصطفى الفقي، وهو أيضا سكرتير حسني مبارك للمعلومات بين عامي 1985 و1992، أوجز معادلة للمظلة الصهيونية “الرئيس القادم يحتاج إلى موافقة أميركية وعدم اعتراض إسرائيلي… وأعتقد أن الترحيب بالسيد جمال مبارك لديهم… لسبب بسيط أنهم يرون أن الذي تعرفه خير من الذي لا تعرفه”.

كلمة صدق أقرب إلى نفثة مصدور في لحظة يأس، بعد فوات فرصة توليه وزارة الخارجية، وفقدانه الأمل في مبارك الحاكم الدستوري وفي ابنه جمال الحاكم الفعلي. ولكنه رغم الحلم المجهض نال مكافآت منها أرفع جائزة مصرية، “جائزة مبارك” في يونيو 2010، فظل وفيا للعائلة الحاكمة حتى عشية انطلاق ثورة 25 يناير 2011، إذ ترأس وفدا برلمانيا لطمأنة أعضاء من مجلس العلاقات الخارجية الأميركية بأن سيناريو ثورة تونس لن يتكرر في مصر. ولكن الشعب أراد، ولم يكن الصبح ببعيد.

لن أعيد اليوم ما كتبته بعنوان “مصطفى الفقي: متى تزهد في تراب الميري” (العرب 28 يونيو 2014)، ولا يشغلني الفقي (73 عاما) إلا كظاهرة عابرة للأجيال والعصور والثورات والثورات المضادة، وقد عين الخميس الماضي (11 مايو 2017) مديرا لمكتبة الإسكندرية، وكأن ثورة لم تكن.

هل يتذكر الفقي بعد عودته إلى واجهة المشهد مطلا على العالم من منصة مكتبة الإسكندرية مقولته القديمة؟ والأهم من تذكّر “الحكمة” هو مدى اختبار سريان صلاحيتها، بعد تلكؤ سفينة الثورة وجفاف المياه من تحتها، فلا هي أبحرت ولا ظلت مصونة بالقرب من الشاطئ، وماذا عن “معهد دراسات السلام” بالمكتبة، وقد شارك في أنشطته إسرائيليون بصفة يقال إنها “فردية لا تعبر عن رأي الحكومة الإسرائيلية.. لإيجاد حل سلمي للنزاع”. في تبسيط ساذج لصراع معقد في المفاهيم قبل الميادين.

لا أحتاج إلى إثبات العلاقة بين اليهود والصهيونية أو نفيها، ولعل مصطلح “الصهيونية” يليق بالحالة الأميركية وريثة الرأسمالية الإمبريالية، والحاضنة للظاهرة الصهيونية، إلى أن تصعد قوة ترث الإمبراطورية الأميركية، وتصير إسرائيل ضمن التركة بندقية للإيجار، ما لم يتم تفكيكها، ونقض الظاهرة، وتحليلها إلى عناصر تماسكها ومصادر قوتها. ولا تسهم في ذلك الأيدي الممدودة بأكفان المهانة منذ القمة العربية في بيروت 2002، فهي تقر بالهزيمة، وترضى بالتنازل عما يراه القانون الدولي “ثوابت” منها قرار التقسيم في عام 1947.

لا يجد الاسترحام والتسول باسم الفلسطينيين صدى لدى إسرائيل وراعيها، فالراعي أكبر من شخص، كيان رأسمالي ضخم، لا يعول فيه على تغيير إدارة أو اختيار صديق سابق لإدوارد سعيد ورشيد الخالدي رئيسا. كما أن الإلحاح على إغراء إسرائيل بالسلام وحسن الجوار مقابل التصدق على 22 دولة عربية بجزء من الأرض المغتصبة يزيدها صلفا، والحلول الفردية المسماة بالسلام بين كيان مغتصب وهذا الطرف العربي أو ذاك تضعف الموقف العربي، وتطيل عمر إسرائيل فستقوي بها أنظمة عربية وإسلامية، خوفا وخجلا من افتضاح علاقات سرية بالراعي الأميركي الذي تعاديه في العلن.

يذكر جوردون توماس في كتابه “جواسيس جدعون.. التاريخ السري للموساد” أن صفقة الأسلحة الأميركية لإيران شملت 128 دبابة وعشرة آلاف طن قذائف وثلاثة آلاف صورايخ جوـ جو وأربعة آلاف بندقية مع 50 مليون طلقة، إلخ. وأنها كانت تنطلق من بولندا وبلغاريا وبلجيكا وغواتيمالا وغيرها إلى إسرائيل، ثم تشحن جوا إلى إيران التي “تدفع الأموال عبر حسابات مصرفية في سويسرا… لم تحصل إسرائيل أي مكافأة مالية، وارتاحت برؤية إيران تطوّر من قدراتها لقتل المزيد من العراقيين”. وحطت في طهران أول طائرة محملة بالأسلحة من إسرائيل في أغسطس 1985.

لا يجد الاسترحام والتسول باسم الفلسطينيين صدى لدى إسرائيل وراعيها، فالراعي أكبر من شخص، كيان رأسمالي ضخم
القرار الصهيوني يصدره الراعي الأميركي للقاعدة العسكرية الإسرائيلية التي تتقنع بوجود شعب ومواطنين استجلبوا ولا يزالون يتعرضون لإغراء “العودة إلى أرض الميعاد” من أي مكان لمجرد أنهم يهود، ويمنحون حقوقا يحرم منها الفلسطينيون المتطلعون إلى العودة منذ نكبة 1948. في صفقة إيران- كونترا لم تنل إسرائيل عمولة؛ فالراعي هو من يقرر، وهو الذي يأمر حامل السلاح بشن عدوان، أو يلزمه بضبط النفس، كما جرى مع صواريخ سكود التي أطلقها صدام حسين في بداية عام 1991. والراعي لكي يبدو حكما ووسيطا بين خصوم يتورع عن تلويث يديه بعمليات إرهابية قذرة تنفذها مجموعة محترفة أو إحدى وحدات الجيش الأميركي، لا يضطر إلى التورط في ممارسات تشوه وجهه “الأخلاقي”، فينوب عنه إرهاب دولة تتباهى بسجلها الإجرامي. يسجل جوردون توماس أن أميركا حين ضغطت على فرنسا لوقف شحن المفاعل الذري إلى العراق، “تلقت ردا جافا من باريس، فاتخذت إسرائيل طريقا أكثر مباشرة”، وأرسل إسحق هوفي مدير الموساد فريقا لتدمير قلب المفاعل قرب طولون، وفريقا لاغتيال العالم المصري يحيى المشدّ المشرف على شحن الوقود الذري إلى العراق. في يونيو 1980 طعنه قاتلان في القلب وذبحاه، ونبشا الغرفة ليبدو الأمر محاولة سرقة، وشهدت فتاة ليل في الغرفة المجاورة بالفندق بسماع أصوات غير عادية في غرفة المشدّ، وبعد ساعات قتلت في حادث سير. وفي مارس 1981 دمرت إسرائيل المفاعل العراقي بقاذفات ترافقها ست طائرات مقاتلة “على ارتفاع منخفض جدا عبر الأردن… بعد دقائق من مغادرة الفنيين الفرنسيين للموقع”.

إلا أن مئير عميت يحرص على ألا تبدو عمليات الاغتيال “كإرهاب دولة، وإنما عقاب عادل تستطيع الدولة فرضه. دورنا لا يختلف عن أي رجل ينفذ قرارا قضائيا بالإعدام”. هنا قد يصدر الراعي الرسمي للإرهاب حكما سريا فتنفذه اليد الطولى، وعلى طريقة اللصوص وقطاع الطرق في ممارسة اجتهادات وتنفيذ عمليات لتحقيق عائد لا يتناقض مع استراتيجية الراعي، فينقل جوردون توماس عن مدير وكالة المخابرات المركزية وليام كيسي أن الموساد “لعب دورا قذرا بتزويد حزب الله بالأسلحة لقتل المسيحيين. وفي الوقت نفسه وفر الأسلحة للمسيحيين لقتل الفلسطينيين.. هناك جانب آخر من العلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل عدا الدعم المالي… حوّلت الدولة اليهودية إلى قوة إقليمية عظمى لا تخاف العدو العربي”.

إسرائيل عدو، وهي ورعاتها يروننا أعداء. الفرق أننا لا نمارس عدوانا تجاه اليهود، وهم ليسوا ضحايانا، وإنما يواصلون العدوان ضمانا لتماسك البنية العسكرية لكيان سيتفكك لو تحقق السلام الدائم، فتنتفي الحاجة إلى القاعدة العسكرية الصهيونية، ويخسر الرعاة استثماراتهم فيها. ولا يضمن هذا الاستمرار إلا دعاوى يهودية الدولة التي يتمسكون بها مع صعود التشدد الإسلامي، واعتبار فلسطين قضية دينية لا قضية إنسانية تخص مواطنيها من مسلمين ومسيحيين ويهود لم يهاجروا إليها، ومن يريدون البقاء فيها بعد تفكيك الحالة الصهيونية. في ختام كتابه “خطيئة إسرائيل” يعترف جوزيف الغازي بأن قضية عودة الفلسطينيين تحتفظ بحيويتها، وتهدد استمرارها كدولة يهودية. ويقول إن إسرائيل “دولة لليهود، وليست دولة اليهود، أو أيّ دولة ديمقراطية، ونحن نعيش في حالة خوف، وأولئك الذين يعتقدون أن مخاوفنا مبالغ فيها مخطئون”.

تبدّد إسرائيل الخوف باختلاق الأعداء، وترويج شائعات، ومنها الزعم بأن جمال عبدالناصر هدد بإلقائها في البحر. ونفى حسنين هيكل عام 2006 ذلك الوهم الذي استغلته إسرائيل في ستينات القرن العشرين، بعد إقصائها عن مؤتمر باندونج.

التفكيك يضمنه استمرار المقاومة الميدانية، وغطاء سياسي يلحّ على العوامل الأخلاقية، ومنها تأكيد اليونسكو في 2 مايو 2017 قراراتها السابقة التي تنص على أن إسرائيل محتلة للقدس، وترفض السيادة الإسرائيلية عليها. قرار مفاجئ ربما لا يروق لأنظمة عربية تستفيد من بقاء الظاهرة الصهيونية.
نقلا عن العرب