يستمر الجدل بين بغداد – وواشنطن حول آفاق العلاقات بين البلدين، لاسيما بعد انتهاء مفعول الاتفاقية العراقية- الامريكية في 31 كانون الأول (ديسمبر) 2011، حيث من المفترض أن تنسحب القوات الأمريكية من العراق. لكن واشنطن التي جاءت لغزو العراق واحتلاله لا تغادر أرض الرافدين، مثلما لم يغادر جنودها أراضي أية دولة أقامت فيها قواعد عسكرية، زادت على 136 قاعدة أساسية الاّ إذا اضطرّت الى الخروج أو الانسحاب مهزومة مثلما حصل في فيتنام.
ولدى الحكومة العراقية رغبة شديدة في أن تعاملها الولايات المتّحدة على أنّها حكومة ذات سيادة، وعلى الرغم من أن واشنطن تروّج خارج نطاق العلاقة الثنائيّة، إلى أن العراق استعاد سيادته في 30 حزيران ( يونيو) 2004 وبقي أن يستكمل بعض جوانبها العمليّة المنقوصة، إلاّ أنها تدرك حجم الاختلال في هذه العلاقة التي تريدها بين تابع ومتبوع.
كما توافق الحكومة العراقية على تقديم تسهيلاتٍ لواشنطن، لكنّها تريدها تسهيلاتٍ مؤقّتةً في حين تريدها واشنطن مفتوحة، وكانت بغداد بموجب اتفاقية العام 2008 قد وافقت على قيام القوّات الأمريكية بشنّ عمليّات عسكرية داخل العراق لملاحقة الإرهاب محتفظة بحقّها دون منازع في تفسير الإرهاب، إضافة إلى حق اعتقال من تريد اعتقاله، وتحمي نفسها بالتمتّع بالحصانة القانونيّة لجنودها وشركاتها الأمنيّة، والمقاولين والعاملين معها، لكن اعتراضها كان ينصب حول إبلاغها أو أخذ موافقتها وحصر الحصانة القانونية للجنود والشركات أثناء العمليّات العسكرية، كما تريد بغداد رقابة على دخول وخروج الأموال الأمريكية إلى العراق عبر البنك المركزي، لكن واشنطن رفضت وترفض ذلك، ولم يحدث أن لجأت إليه، أو حتى طالبتها الحكومة العراقية به سابقاً. ولا يزال المسؤولون الأمريكان يأتون ويذهبون الى العراق دون إذن من الحكومة العراقية.
وكانت واشنطن تريد امتيازات على الأرض ببناء قواعد عسكرية ثابتة ونقاط تفتيش، مع أنها خفّضت من ذلك واكتفت بقواعد أساسية وستقوم بتسليم المراكز الأخرى الى القوات العراقية، كما كانت تريد امتيازات بالسيطرة على الأجواء العراقية حتى ارتفاع 29 ألف قدم وتسهيلات مفتوحة في المياه ، الأمر الذي لم تستطع بغداد رفضه بالكامل، لكنها تريده بصيغةٍ تعديليّةٍ، وإلاّ فإن بديله يعني العودة إلى قرار مجلس الأمن والفصل السابع من الميثاق، ولذلك أصرّت واشنطن عشية انتهاء المهلة المحددة 31/12/2008 على توقيع الاتفاقية الأمنية مع العراق، لأن القوات الأميركية في العراق ستكون دون غطاء قانوني، وهو الأمر الذي ترفضه واشنطن بالمطلق، ولكن هذا السقف العالي الذي طرحته واشنطن، كان يستهدف اختبار رد الفعل العراقي لاسيما الشعبي، وهو الأمر الذي يتكرر اليوم عند الحديث عن إتفاقية عراقية– أمريكية جديدة، أو بروتوكولات بين الطرفين مع تأكيد الانسحاب وبقاء قوات من بضعة آلاف أو حتى مئات للتدريب والتأهيل، مع عدد من الموظفين الدبلوماسيين والاداريين والمتعاقدين يزيد على 16 ستة عشر ألف أمريكي يتمتعون بالحصانة القانونية الكاملة.
وعلى الرغم من أن المشروع الإمبراطوري الأمريكي قد بشّر بوعودٍ كثيرةٍ ليس أقلّها بزوغ نجم الحرّية وحلول ربيع الديمقراطيّة مع الرفاه المنشود، إلاّ أن انهياره أصبح حديث الأمريكان قبل غيرهم، لا سيّما خلال التحضير للانتخابات الرئاسية، وكان التعويل على صعود نجم أوباما الذي قد يكون عاملاً جديداً في إعادة النظر بالإستراتيجية الأمريكية بشأن العراق، وهو الأمر الّذي أراد الرئيس بوش أن يُظهر عكسه بإدعائه أن هدف الحرب قد تحقّق، حيث تمّ وضع اليد على النفط وتوقيع إتفاقية عراقية – أمريكية وأن الحرب على الإرهاب تُحرز نجاحاتٍ مستمرّة بما فيها التلويح بضرب إيران، مع اعترافه بخطأ المعلومات التي وردته بشأن غزو العراق وذلك قبل مغادرة البيت الأبيض .
وتريد الحكومة العراقية “ضماناتٍ” لحمايتها ضد أي عدوان خارجي، وضمانات أخرى لحماية العمليّة السياسيّة القائمة، التي قد تنهار أو تُجري تغييراتٍ لمساراتها الأساسيّة إذا تخلّى عنها الأمريكان، لكن واشنطن هي التي ستقرر في النهاية فيما إذا تعرّض البلد إلى عدوان خارجيّ أو أن ما حصل يستوجب تدخّلها لحماية النظام، الأمر الّذي سيجعل المقدّرات العراقية كلّها بيد واشنطن من جهة، ومن جهة أخرى فإن التداخل الإقليمي، ولاسيما النفوذ الإيراني سيتعاظم في العراق بعد الانسحاب، وهو ما أبدت قوى كثيرة تخوّفات منه.
وإذا كان قانون النفط والغاز قد تم إمراره في البرلمان بعد صراع لم ينتهِ منذ العام 2007، فإن وجود قواعد أمريكية عسكرية متقدّمة في الشرق العربي، لا بدّ أن يؤخذ بالحسبان لا فيما يتعلق بالعراق وسيادته وموارده فحسب، بل لجيرانه أيضاً، ولعموم دول المنطقة، التي سيكون نفطها في الحال والمستقبل تحت هيمنة القوّة العسكرية . ومهما جرى أي تعديل أو تحسين على بعض مواد الاتفاقية السابقة، أو تم توقيع بروتوكولات جديدة، إلاّ أن ذلك لا يغيّر من حقيقة الوضع القانوني الذي نظّمته الاتفاقية والذي قد يترك تأثيراته السلبيّة على العراق ولسنواتٍ طويلة، لاسيما وأن “الاحتلال العسكري” قد تحوّل قانونياً الى “احتلال تعاقدي”.
وعلى الرغم من الحديث عن الرفاه الاقتصادي وبحبوحة العيش بعد سنوات عجاف للحصار الدولي، فإن الشركات الأمريكية ظلّت عينها مفتوحة على الثروة النفطية، لاسيما بعد إلغاء قرارات التأميم لعام 1972 وإبرام قانون نفطي (ما زال محطّ خلاف شديد) يعطي للاحتكارات النفطية حصصاً كبيرة تعويضاً عما فقدته طيلة السنوات الثلاثين ونيف الماضية وربما بفترة مقاربة، وإن قيل بشروط ومواصفات دولية، لكن الأمر لا يتعلق بعقود التراخيص الجديدة، بل التحكّم بخطوط إمدادات النفط وإنتاجه وأسعاره، وليس بالنسبة للعراق فحسب، بل لمعظم دول المنطقة.
لقد ساهمت الحرب على العراق في تدمير مقوّمات البُنية التحتية الهيكلية في العراق، وكذلك فككت مؤسسات الدولة، لاسيما أجهزتها الأمنية والعسكرية. ولم تسع واشنطن إلى إعادة بناء الجيش والقوى الأمنية على الرغم من مرور ثماني سنوات ونيف من الاحتلال وقد تحتاج إلى بضع سنوات أخرى، فيما إذا استتب الوضع الأمني، لكنها حتى الآن دخلت تجارب عديدة فاشلة، وتباطأت وتلكأت في إعادة تأهيل القوات المسلحة والأجهزة الأمنية، الأمر الذي جعل العراق ضعيفاً ومضطراً لقبول شروط المحتل، خصوصاً في ظل غياب إجماع شعبي ومصالحة وطنية حقيقية.
إذا كان التاريخ لا يعيد نفسه حسب كارل ماركس وإن حدث ذلك، ففي المرة الأولى كمأساة وفي المرة الثانية كملهاة، فإننا ونحن نتحدث عن اتفاقية عراقية- أمريكية فكأن الزمن قد توقف ولم نتعلم من دروس الماضي، في مرحلة الاستقلال الأول. ويروي السياسي والمفكر الاجتماعي العراقي عبد الفتاح إبراهيم أنه التقى رئيس الوزراء العراقي نوري السعيد” برمانا” والذي جاء إليها للاصطياف وذلك أيام دراسته في بيروت، بصحبة نجله صباح نوري السعيد ويوسف زينل، وطالبه بإنهاء النفوذ البريطاني في العراق وإلغاء معاهدة 1922 وما تبعها (الحديث في العشرينات) فأجابه بعد نقاش طويل: “تكبرون وتعقلون وتتعلمون” وقصد بذلك أن العراق خرج لتوّه من السيطرة العثمانية وهو ضعيف ويريد التعاون مع حليف قوي، ولهذا اضطرّ للموافقة على المعاهدة.
ويذكر أن فهد (يوسف سلمان يوسف) أمين عام الحزب الشيوعي الذي أعدم في 14 شباط (فبراير) 1949 كان يعلّق على الحكومات التي فرّطت بالمصالح الوطنية بقوله: إنها حكومات من ورق، (حكومات ورقية) ويمسك بخيوطها سميث وآل سميث (نسبة الى تبعيتها للبريطانيين).
وإذا كانت السياسة في جانب منها ” فن الممكن” طبقاً لصراع واتفاق المصالح، لاسيما توازن القوى، لكن ذلك لا يعني أن بالإمكان وصف اتفاقية مذلّة بأنها مكسباً شعبياً، وهو الأمر الذي كان سبباً في سقوط حكومة صالح جبر العام 1948 الذي أقدم للتوقيع على معاهدة بورتسموث الشهيرة، ويُذكر أن الشخصية الوطنية محمد جعفر أبو التمن عندما اضطرّ الى تأييد اختيار الملك فيصل الأول العام 1921، رفض المجيء مع الجوقة التي رافقته قائلاً، إذا كان الأمر اضطراراً فعلينا أن لا نبالغ في إظهار البهجة والتأييد وباللهجة العراقية لا نريد أن نكون “زفّافين”، أي من يزفّ الملك الجديد الى العراقيين.
وإذا أخضعنا إتفاقية العام 2008 إلى التحليل السياسي بعد تشخيص عوارها القانوني، فإنه يمكن القول أنها اتفاقية غير متكافئة وقد “اضطرّ” إليها الجانب العراقي، لأنه الطرف الضعيف، أما المحتل فهو الطرف القوي الذي فرض شروطه، ناهيكم عن وجوده العسكري. ولعل مثل هذا الاستنتاج سيكون أمام صاحب القرار والمشرّع والشعب العراقي، لاسيما وأن الحديث يزداد حول احتمال بقاء عدد محدود من المدربين الأمريكان، ولكن لا أحد يستطيع تحديد عددهم حتى لو تم الاتفاق على ذلك، فمن سيقوم بتعداد أفراد القوات المسلحة الأمريكية، فضلاً عن أفراد الشركات الأمنية المتعاقدة معها؟
وكان سكوت إتفاقية العام 2008 عن موضوع التعويضات، قد أسقط حق مطالبة الحكومة العراقية، وإنْ لم يلغِ حق مطالبة المتضررين العراقيين، لكن هؤلاء دون دعم حكومي لا يمكنهم مقاضاة واشنطن وملاحقة المرتكبين، والأدهى من ذلك قامت بغداد قبل أشهر قليلة بتعويض واشنطن 400 مليون دولار أمريكي دون أن تنبز ببنت شفة إزاء حقوق العراقيين جرّاء الأضرار المادية والمعنوية التي تعرّضوا لها بسبب احتلال العراق، وما نجم عن ذلك من خراب ودمار ونهب وسلب، تتحمله القوات المحتلة حسب إتفاقيات جنيف لعام 1949 وملحقيها لعام 1977، وقواعد القانون الدولي الانساني.
لكن هذه المسائل العقدية والإشكالية ستكون مصدر اختلاف وجدل وصراع عراقياً داخلياً، إضافة الى صراع عراقي مع واشنطن، وخصوصاً بفتح ملف الاحتلال كاملاً بما فيها انتهاكات حقوق الانسان.
ومثلما ارتابت بعض الأطراف من عدم التوقيع على اتفاقية العام 2008، فإن بعضها لا يزال مرتاباً، بل كثير القلق فيما إذا اضطرت القوات الأمريكية إلى الرحيل سريعاً، فإن ذلك سيغيّر من ميزان القوى لصالح إيران، وهي الأخطر على بعض القوى، التي يشارك قسم منها في الحكم وقسم منها خارجه، وهي معادلة متداخلة ومتناقضة، لدرجة أن هذه القوى تعتقد أن إيران هي أكثر خطراً من الاحتلال الأمريكي. ومن بعض المفارقات أن طارق عزيز وزير خارجية النظام السابق والمحكوم عليه بالإعدام خاطب الأمريكان من محبسه قائلاً: “لا ينبغي على الولايات المتحدة أن تتركنا بيد الذئاب”، في إشارة إلى القوى الدينية المهيمنة على الحكم والقريبة من إيران، إضافة الى إيران ذاتها.
وعشية الانسحاب الأمريكي من العراق فإن علاقات القوى المشاركة بالعملية السياسية بدأت تتدهور فازدادت هذه العلاقة حدّة بين إربيل وبغداد، وارتفع الاستقطاب والتراشق بين القائمة العراقية وقائمة دولة القانون، كما ارتفعت موجة الارهاب والعنف وكواتم الصوت التي طالت الأساتذة الجامعيين والعلماء ومؤخراً شرطة المرور، في حين ضعفت الثقة بين الأطراف السياسية، خصوصاً بعد شن الحكومة حملة اعتقالات قالت أنها استهدفت عناصر محسوبة على النظام السابق تريد التحضير لانقلاب عسكري، وأن هناك تواطؤات من بعض أطراف العملية السياسية لتغطيتها، ولكن الأنظارلا تزال مصوّبة باتجاه الإنسحاب الأمريكي وما سيترتب عليه!! .
* صحيفة الخليج الاماراتية ، الاربعاء في 9/11/2011