كلّف رئيس الجمهورية العراقية، الدكتور محمد فؤاد معصوم هورامي (تولد عام 1938 في مدينة كويسنجق)، النائب الأول لرئيس مجلس النوّاب، الدكتور حيدر جواد العبادي (تولد عام 1952 في بغداد)، بتشكيل الوزارة العراقية الجديدة يوم الإثنين، 11 آب/أغسطس، 2014، خلفاً لرئيس الوزراء المنتهية ولايته، السيد نوري المالكي.
حدث ذلك إثر أزمة سياسية حادة، منذ ظهور نتائج الانتخابات الأخيرة التي جرت في 30 نيسان/أبريل، 2014 بسبب رفض الكتل السياسية، و بضمنها التحالف الوطني، إعطاء ولاية ثالثة للمالكي. في حين أصرّ المالكي حتى آخر لحظة على إتّباع نهج تصادمي مع الجميع متذرّعاً بأنه أحقّ من غيره بالمنصب، و متّهِماً لرئيس الجمهورية بالقيام بإنقلاب دستوري ضده. و لمّا اختار المالكي و معصوم طريقاً صِدامياً مع بعضهما صار من المستحيل أن يعملا معاً في حكومة واحدة. و أصبح خروج المالكي من السلطة يشبه عملية الطرد أو الإقالة من المنصب، و يُذكّرنا بما فعل السيد إبراهيم الجعفري من قبل، الذي رفض أيضاً التنحّي عن رئاسة الوزراء لصالح شخص آخر من نفس الحزب، أي حزب الدعوة. و على إثرها حدث إنشقاق في صفوف الحزب و دفعت بالجعفري لتشكيل تنظيم سياسي جديد سمّاه تيار الإصلاح الوطني.
و أظهرت الأحداث في الأسابيع الأخيرة عن حدوث إنشقاق آخر في حزب الدعوة، و هذه المرة بزعامة المالكي. و لا يُعرَف بعد إسم التنظيم السياسي الجديد الذي سيشكله من العناصر الذين ظهروا معه مؤخراً في مناسبات مصوّرة كثيرة. تشير هذه الأحداث إلى وجود عاهة مستديمة ضمن قيادات الأحزاب قبل عام 2003، و منها حزب الدعوة الإسلامية، و هي عاهة التطرّف و التسلّط و الإستبداد.
و مع أن أوساط الشعب العراقي تلّقت نبأ تعيين رئيس الوزراء العراقي الجديد، حيدر العبادي، بشيء من الإرتياح و التفاؤل المشوب بالحذر و الترقّب لما سيحدث قريباً، فإنه لا يوجد حالياً سبب للإبتهاج أو لمزيدٍ من الإستياء من الوضع الراهن لأنه في أسوأ حالته.
تظهر الآن تحدّيات هائلة أمام رئيس الوزراء الجديد، حيدر العبادي، و هي بمجملها تركة ثقيلة من رفيقه في حزب الدعوة، نوري المالكي. لكن هذه التركة السيئة ليست عذراً لأي إخفاق أو تقصير إزاء الشعب العراقي في الأيام القادمة، بل هي، في الواقع، السبب الرئيس و المسوّغ الوحيد الذي يدّعيه المسؤول الجديد للوصول إلى السلطة ـ و إن كان من نفس الحزب.
و فيما يلي نذكر أهم الملفات العراقية التي تواجه الحكومة الجديدة بزعامة الدكتور حيدر العبادي، و كلها عاجلة و ملحّة:
1. الملف الأمني: لهذا الملف الأفضلية و الأسبقية بلا منافس. لقد أظهرت الأحداث بجلاء تام أن جيش الطوائف هو جيش الهزائم، و أن شرطة الطوائف هي شرطة الهزائم. للتوضيح نقول أن أفراد القوات المسلحة العراقية يؤدون واجباً وطنياً نبيلاً في ظروف إستثنائية خطيرة، و لا يتحملّون مسؤولية الإخفاقات المتمثّلة بإستشراء الإرهاب في كل مكان بالعراق لا سيّما في المناطق التي استولت عليها العصابات الإرهابية المسماة إختصاراً “داعش”. و إنما شخص و منصب السيد نوري المالكي، رئيس الوزراء على مدى ثمانية أعوام، و هو أيضاً القائد العام للقوات المسلحة في البلاد، هو الذي يتحمل المسؤولية القانونية و الجنائية لكل الأعمال الإرهابية في العراق.
و هنا تظهر التساؤلات: هل سيغتنم حيدر العبادي هذه الفرصة، و ينزل إلى ميدان المعارك مع الجنود و الضباط لمطاردة الإرهابيين و القضاء عليهم تماماً في كل العراق؟ هل سيُعزّز بناء القوات المسلحة ـ الجيش و الشرطة ـ بعناصر وطنية محترفة موالية للوطن و المواطنين فقط و ليس للحزب أو الطائفة؟ هل سيزور الجرحى و المعاقين من جراء القتال و ذوي الشهداء و يواسيهم و يتعهّدهم بالرعاية التامة؟ نذكّر هنا بحقيقة معروفة و هي أن قوات حرس الحدود العراقية، قبل الغزو الأمريكي ـ البريطاني عام 2003، كان تعدادها 80,000 جندي منتشرين على الحدود العراقية البالغ طولها حوالي ستة آلاف كيلومتراً. ثم فجأة، يتعمّد الرئيس الأمريكي جورج بوش الإبن بتفكيك الدولة العراقية بأكملها، و بضمنها الجيش النظامي و قوات الأمن، فأصبحت الحدود مفتوحة أمام الإرهابيين و المجرمين بدون إستثناء، و أصبح العراق أكبر معسكر في العالم لتدريب و تنفيذ العمليات الإرهابية البشعة.
فهل سيلتفت حيدر العبادي إلى هذه الكارثة الكبيرة التي أتاحت لعصابات “داعش” حرية الإنتقال عبر الحدود دون قيود؟ و في عصرنا الحديث لا تكتفي الدول بحماية حدودها بالأفراد المدربين على السلاح و التجسس، و إنما تعزّزهم أيضاً بالطائرات المروحية المدرعة و الطائرات بدون طيار، و الكاميرات الخفية و الليلية، و كتائب الخيالة، بالإضافة إلى الأقمار الصناعية التجسسية. فهل سينجح العبادي من حيث أخفق المالكي؟ أمْ سيعاني من التخبّط و ينخرط في تحالفات شخصية و حزبية ـ طائفية، و يتّخذ نهجاً صِدامياً مع شركائه في الحكم، كما فعل المالكي؟
2. الملف السياسي ـ الاجتماعي: لا شك أن الظلم أساس الفوضى، و لا نبالغ إذا قلنا أن الظلم السياسي و الاجتماعي، الذي تفاقم بشكل منهجي مع بداية الغزو و الاحتلال الأمريكي ـ البريطاني عام 2003، و إقصاء معظم المجتمع العراقي من المشاركة في صنع القرار السياسي هو الذي أدى مباشرة إلى ظهور أعمال العنف التي كانت في البداية بشكل “عدالة فردية” ثم أصبحت منظّمة مع دخول عناصر القاعدة الإرهابية، و التعاون الموسمي أو الإنتهازي مع بقايا فدائيي صدام حسين. كما أدى الظلم إلى النهب المنظم لثروات الشعب العراقي و تبديدها.
لقد إتخذت العناصر الطائفية التي جاءت مع قوات الاحتلال من موضوع “إجتثاث البعثيين” ذريعة لممارسة أبشع أنواع الظلم و الفساد في تأريخ المجتمع العراقي الحديث. و طالما بقيت هذه المظالم و الثارات مستمرة فإنه لن يسود السلم المدني بالعراق في المستقبل المنظور. في هذا المجال يستطيع حيدر العبادي أن يفعل الشيء الكثير بإتجاه العدالة السياسية و الاجتماعية، و أهمها ما يلي:
أ. إصلاحات شاملة للدستور و القوانين المنبثقة عنه. هنا نُذكّر مرة أخرى بحقيقة و هي أن أكثر من نصف عدد الناخبين العراقيين قاطعوا أساساً التصويت على الدستور عام 2005. و أن نسبة الناخبين الذين أيّدوا الدستور لم تتجاوز 50%. و هذا يعني أن حوالي ثلاثة أرباع الناخبين من المجتمع العراقي لم يكونوا راضين مطلقاً عن الدستور بصيغته الحالية. مع ذلك تمّ تمرير هذه العملية المزيفة لأغراض إنتخابية أمريكية على أساس أن العراقيين إختاروا بمحض إرادتهم الدستور و مجلس النواب و الحكومة الجديدة. فكيف تستيطع أية حكومة بسط الأمن و النظام و القانون في عموم العراق؟
و نظراً إلى أن الإتفاقات الشفهية المدفوعة بالعقلية الطائفية أكثر و أهم من الإتفاقات المكتوبة في الدستور و القوانين فإن الشلل السياسي و الإداري كان و ما يزال العنصر المهيمن على العلاقات بين السلطات المختلفة ـ التشريعية و التنفيذية و القضائية. و قد رأينا بشكل موثّق بالصوت و الصورة و الكلمة المكتوبة حجم الكراهية الشخصية و التنافس على السلطة بين المالكي و النجيفي و الطالباني و البرزاني و غيرهم.
ب. إقرار قانون الأحزاب العراقية: ينظر البعض إلى موضوع قانون الأحزاب و كأنه الحل الشامل لكل المشاكل و الكوارث الموجودة حالياً ـ الطائفية و الحرب الأهلية و الفساد و الإرهاب، إلخ. إذا ثبت أن النسخة المتداولة في بعض وسائل الإعلام هي نسخة حقيقية طُرِحت أمام مجلس النوّاب قبل ثلاث سنوات، فإنها مُسوّدة سيئة للغاية، و تساهم في تعزيز الحصص الطائفية بطريقة شرعية قانونية. لذا فإن الشيء الصحيح الذي يمكن أن يفعله العبادي هو أن يطرح مسوّدة قانون الأحزاب أمام الشعب العراقي للنقاش العلني بطريقة تفاعلية حديثة، و أن يأخذ بآراء عامة الناس، و ليس بآراء “المستشارين” و المثقفين فقط. إن الإستناد المباشر إلى حِكمة الشعب العراقي هو الحل الوحيد للإستقرار و الأمان.
3. ملف الخدمات العامة و البنى التحتية: يجمع العراقيون على أن الفساد الإداري مستشري في كل مفاصل الدولة، و له أذرع طويلة في الحكومة المركزية و الحكومات الفرعية و مجالس النوّاب، و أصبح مقبولاً من الناحية الإجتماعية في أوساط الموظفين و غير الموظفين. حتى صار شعار الموظف الفاسد: هذه حصتي من النفط! كما أن المُصلحين و النزيهين يخافون على أنفسهم من أعمال الإنتقام التي تؤدي إلى طردهم من الوظيفة أو سجنهم بتهمٍ كيدية أو قتلهم. في الواقع، لو تمّ تطبيق القوانين الأمريكية على أعضاء المجالس النيابية و الحكومات العراقية لوجب إعدام أو سجن معظمهم بِتُهَم الخيانة العظمى و القتل و التحريض على الكراهية و العنف و الفساد الإداري و الأخلاقي و التخريب الإقتصادي و الإختلاس و التهريب و التلاعب بالأموال العامة و الكذب تحت اليمين و إعاقة العدالة و التستّر على المجرمين و غيرها من التُهم الخطيرة.
لذا يكون السؤال المتوقع الذي يواجه رئيس الوزراء هو: أين نبدأ؟ لا شكّ أن رئيس الوزراء و أعضاء وزارته لا يمتلكون العِصيّ السحرية لحل المعضلات المتراكمة منذ الغزو و الإحتلال الأمريكي ـ البريطاني عام 2003. لعلّ أفضل بداية هو أن يشرع رئيس الوزراء بتنظيف حزبه و الوزارات من الفساد الإداري. إذ لا يجوز أن يكتفي الوزراء الجدد بتمشية الأمور التي وجدوها على مكاتبهم من أسلافهم. فلا بد من المتابعة الميدانية للمشاريع العامة قيد الإنشاء، و لا بد من المسائلة و المحاسبة و ممارسة العقوبات القوية الرادعة للتأخير و التقصير و التحايل، و لا بد من ملاحقة المذنبين داخل و خارج العراق. من ناحية أخرى، يمكن التعامل مع الموظفين السابقين و الحاليين، الذين إستلموا وظائف مع بداية الإحتلال الأمريكي ـ البريطاني عام 2003، حسب المبدأ: من أين لك هذا؟ و على ضوء ذلك تتم محاسبة المخالفين و المجرمين قضائياً بما ينسجم مع حجم الجرائم التي إقترفوها.
إذا أراد الدكتور حيدر العبادي من الشعب العراقي أن يكتب له صفحة مجيدة من التاريخ المعاصر فما عليه إلا أن يجتاز إختبارين، الأول: أن يواجه التحديات المشار إليها آنفاً بطرقٍ سليمة و بعقل متفتح، و يلجأ إلى الشعب وصولاً إلى الحلول الوطنية الدائمية، و الثاني: أن يتغلب على مزاجه الشخصي، و ينسجم مع طبيعته الإنسانية، و يمارس التواضع و الإصغاء لما يقوله و يحسه أبناء الشعب، و أن يحاول تحقيق الإعتدال و التوازن و الحكمة في القول و العمل.
فهل سينقلب الدكتور حيدر العبادي على حزبه و على نفسه، و يعلو فوق الإنتماءات و الحصص الطائفية، و يقود العراق إلى برّ الأمان؟ أو أنه سيخذلهم كما فعل الذين من قبله؟ هذا ما سنعرفه مبدئياً بعد 100 يوم من تشكيل الوزارة.