منذ تشكيل أول حكومة عراقية بعد التحول السياسي عام 2003 باتت الصيغة المحاصصية على أساس الطائفة والعرق هي الصيغة المهيمنة تماما، ولعلي لا أبتعد عن الحقيقة حين أرى أن داعش اليوم نتاج مباشر لهذه الصيغة الشاذة في بناء الدولة، فالتغانم والتحاصص السياسي هو من وسائل الهدم والتفتيت و ليس التكوين والبناء، إن رأس الجبل الطافي ينقل لنا دوما صورة مشوهة وغير واقعية عن الحقيقة، فإذا كان ظاهر المحاصصة هو توزيع قد يتسم بالعدالة النسبية في ظرف أكثر خصوصية من غيره للمناصب ضمن الكابينة الوزارية إلا أن هذا الطابع الطائفي والقومي وحتى الحزبي لا يستثني مجمل الهيكلية الإدارية للدولة، فهو يتغلغل في كل مفاصلها الحيوية و يعزل لبنات مؤسسات الدولة عن بعضها البعض، محيلا إياها إلى إقطاعيات وملكيات خاصة بهذا الطرف أو ذاك. حتى ليندلع السؤال في ذهن المراقب اللبيب: ترى ما هو الفرق الأساسي بين إيجابيات ما يعرف بالمشاركة وسلبيات المحاصصة؟ بمعنى ما الفارق الملموس بين ما يقال عن إيجابية إشراك المكونات العراقية (المحاصصة بالطبع) وخلق نوع من التوازن في تمثيلها كي لا يشعر هذا الطرف أو تلك الجهة بالتهميش والإقصاء وبين سلبيات تجذر الطائفية المؤدية إلى تفتيت الكيان الهش للدولة وتحويلها إلى أجزاء متناثرة بيد الأحزاب والقوى المتعارضة؟
فكل وزارة اليوم ومنذ سنوات ما بعد التغيير تتحول إلى دولة بحد ذاتها مطبوعة بالطابع القومي أو الطائفي بحسب انتماء وزيرها والنافذين في مكتبه. ولنأخذ هنا مثالا لم يعد السكوت عليه أمرا قابلا للاحتمال، ألا وهو ما يجري في وزارة التجارة.. حيث أن الرؤوس النافذة فيها لم تستطع الانتظار طويلا، وراحت تعبر عن حقيقة نواياها بسلوكيات كريهة وممارسات طائفية مقيتة، ولا شك أن على وسائل الإعلام مسؤولية كشف هذه الممارسات وعرض الحقائق المتوفرة عنها إن أرادت وسائل إعلامنا أن تكون صادقة في تأدية رسالتها الوطنية والمهنية والأخلاقية.
يتقلد السيد ملاس الكسنزاني منصب الوزير تبعا لنهج المحاصصة الطائفية والقومية الساري المفعول في حكومة السيد حيدر العبادي. وكنا نتوسم خيرا في احتلال الرجل لهذا المنصب ولوزارة تتعلق بها أقوات المواطنين ولها ثقلها ودورها في حياتهم، ولكن كانت أول خطوات الوزير هو تعيين أحد الأشخاص عديمي الكفاءة والخبرة، وممن لهم سوابق جنائية تمنعهم قانونا من تبوء منصب مدير مكتب الوزير! ألا وهو عمار تركي النعيمي.. ويعتبر النعيمي اليوم هو الرجل الأول في وزارة التجارة فإليه تنتهي زمام الأمور كلها، وله الكلمة الفصل في الصغيرة والكبيرة مما يتعلق بعمل الوزارة.
أظهر السيد النعيمي سلوكا طائفيا مشينا كواحدة من أولى خطواته في منصبه، فقد بادر إلى طرد كل العاملين من غير الطائفة التي ينتمي إليها بدءا بالمدراء العامين وانتهاء بعمال وعاملات التنظيف، مع استثناءات قليلة تعرضت إلى أسلوب الترهيب والابتزاز والضغوط المختلفة لتقديم استقالاتهم أو طلب النقل إلى مكان آخر.
السيد النعيمي مطلوب بقضايا تتصل بالمادة 4إرهاب، وبالتالي فلا غرابة في أن يقوم بتعيين سكرتير للوزير هو الآخر مطلوب وفق المادة نفسها وهو فارس التكريتي، فارس التكريتي هذا تمكن من الهرب إلى عمان في وقت سابق تتم اليوم من خلاله عملية تسهيل تحويل الأموال إلى رجال أعمال و أشخاص على اتصال مباشر بداعش، وهذه التحويلات تجري من خلال شركة صيرفة يمتلكها النعيمي نفسه ومرتبطة بشركة الماسة الأردنية.
إن قصة النعيمي واحدة من القصص الأكثر اعتيادية في عراق اليوم الذي يقع نهبا لمافيات الفساد السياسي، إن بإمكان المال والعلاقات السياسية أن تجعل من القانون مجرد أضحوكة أو طرفة من طرائف جحا، فلا يملك القضاء في الحقيقة سلطة فعلية لقدرة سلطة السياسة والمال على قلب الحقائق وإفلات المتهم من أية جريمة مهما كانت مكتملة الأركان. وهكذا أفلت النعيمي من التهم الموجهة إليه عبر رشوة قدمت لأحد الضباط وصلت إلى خمسين ألف دولار عدا مجموعة رشا أخرى لأشخاص مهمتهم تغيير مجرى العدالة بثمن محدد سلفا.
يشغل النعيمي الآن درجة مدير عام في الوزارة وهو من مواليد 1975 لا يمتلك أية مؤهلات سوى شهادة مزورة.. وقد دأب منذ استلامه المنصب على السفر في كل خميس وجمعة إلى عمان أو لبنان أو تركيا لاستحصال مبالغ الكومشن من رجال أعمال وتجار تنتهي نسبة كبيرة منها إلى جيوب الدولة الإسلامية، ما يثبت للمر الألف أن العراقيين يقتلون بأموالهم، وقريبا سيسافر السيد عمار النعيمي إلى روسيا لعقد صفقات مع بعض الشركات إزاء عمولات معينة، وكما تنص السياقات فإن هذه الإجراءات تنهض بمسؤوليتها لجنة العقود في الوزارة، إلا أن دور هذه اللجنة تم تغييبه تماما لصالح السيد النعيمي، والذي من اللافت أنه اختار إحدى الموظفات اللواتي لا علاقة لهن بلجنة العقود مطلقا لمرافقته في رحلته السعيدة، حيث لا تمتلك هذه السيدة سوى جمالها الأخاذ وعيونها الساحرة الجميلة. وعلى أية حال فجميع العقود ستنتهي إلى تجار على اتصالات معروفة بداعش أو متعاطفين معها.
من الحقائق الأخرى التي نعرضها عبر وسائل إعلامنا الشريفة والوطنية وبما يتصل بما يجري في وزارة التجارة العراقية أن السيد عمار النعيمي قام بتعيين شخص يدعى محمد طه الهكروش، وهذا الرجل كان موظفا في مديرية زراعة ديالى، وقد أصدرت الجهات القضائية مذكرة إلقاء قبض عليه بعد أن ألقت القوات الأمنية- زمن سيطرة تنظيم القاعدة على محافظة ديالى- القبض على أحد قياديي هذا التنظيم مختبئا في منزله، يشغل الهكروش منصبين في وقت واحد، هما منصب مستشار الوزير، ومنصب مدير عام الدائرة الإدارية والمالية، وهو إجراء غير قانوني بالمطلق، فمستشاري الوزارات يجري تعيينهم من قبل الأمانة العامة لرئاسة الوزراء ومن ثم يصوت عليهم مجلس النواب، الهكروش بدوره قام بتعيين ابنتيه كموظفتين في مقر الوزارة. هذه الوزارة التي يبدو فيها شخص الوزير شبحا غير منظور في كافة الإجراءات والأوامر الإدارية الصادرة من مكتبه، فزمام الأمور بيد السيد النعيمي والمدراء العامين الذين اختارهم تبعا لانتمائهم الطائفي لا غير.
نضع هذه الحقائق أمام أنظار الجهات المعنية ولاسيما رئيس الوزراء نفسه، الذي تناهى إلينا أنه في جلسة مجلس الوزراء مؤخرا تكلم بغضب وانفعال مع السيد الوزير الذي ادعى عدم إطلاعه على ما قيل له مما يدور في وزارته من سلوكيات مشينة.
إن مصير العراق يبدو حالكا شديد القسوة في ظل جريان الأمور وفق هذه المسارات الخاطئة، وغياب سلطة القانون و تضاؤل القدرة على تدارك التداعي السريع في مؤسساته، التي تحكمها مافيات من هذا النوع، كيف يمكن الخلاص من كابوس داعش في ظل استفحال ورسوخ الطائفية و اتخاذها بوصلة من قبل أصحاب القرار للسير في طريق الإجهاز على بقايا يفترض أن تكون تأسيسا صالحا لقيام دولة مواطنة حقيقية!! قد لا تؤثر هذه المقالة برغم الكم المعقول من المعلومات التي أطلعنا عليها عن قرب في أية جهة حكومية لالتزام الخطوات المطلوب اتخاذها بحق عصابة من هذا النوع وفي وزارة اقتصادية مهمة، في حين لو توفرت ربع هذه المعلومات في دولة مؤسسات حقيقية وإعلام غير مرتهن بالأهواء السياسية ومواطنين قادرين على التفاعل مع المعطيات بروح وطنية مسؤولة لكان سلوك النعيمي فضيحة الفضائح التي تشغل الرأي العام لأشهر عديدة.. ولهذا فالأنكى من ترددنا في الاعتقاد بأن جهة مسؤولة ستبادر على الأقل للتحقق من صحة ما أوردناه هو ما سنتوقعه من ردود فعل متباينة على خلفيات سياسية وطائفية وحزبية، بدلا من الإجماع على رفض سلوك النعيمي وزمرته و إطلاق حملة إعلامية تدعو الوزير إلى تصحيح مسار عمل وزارته قبل فوات الأوان..! ولكن ما الغريب في ذلك؟ ألسنا جميعا شركاء في القبض على معول الهدم و إبراز عضلاتنا في ضرب ما تبقى من بقايا الحطام العراقي؟!