18 ديسمبر، 2024 9:55 م

ما الذي يجري في العراق ولبنان !

ما الذي يجري في العراق ولبنان !

أوجه التشابه كثيرة وكبيرة بين ما يجري في العراق وما يجري في لبنان . فالنظام في كلا البلدين قائم على عملية سياسية تعتمد على المحاصصة الطائفية . في لبنان رئيس مسيحي ورئيس وزراء سنّي ورئيس مجلس نواب شيعي ، وفي العراق رئيس كردي ورئيس وزراء شيعي ورئيس مجلس نوّاب سنّي . كلا البلدين يشهد تمردا مشتركا في الوسائل والغايات . الالاف من الشباب هم عناصر هذا التمرد وهم قادته ايضا . وهم يفكرون في الحاضر والمستقبل ، ولا يعنيهم من الماضي شيئا . فشباب العراق غير معنيين بحقبة نظام صدّام حسين لأنهم لم يعانوا منه ، وكذلك الامر لشباب لبنان اللذين لم يعيشوا عناء الحرب الاهلية اللبنانية . وشباب العراق مثل شباب لبنان سئموا من نظام المحاصصة والطائفية ومن الفساد والفاسدين وهي القواسم المشتركة في كلا النظامين ، وهم يتطلعون الى نظام سياسي واجتماعي يتفهم معاناتهم ويستجيب لمطالبهم في حياة كريمة ومستقبل آمن . وعندما تشكّل وعيهم وكبر ، ادركوا انّ الخلل لايكمن في الطبقة السياسية الحاكمة فقط بل بطبيعة النظام نفسه ، وانّ العملية السياسية القائم عليها كلا النظامين لايمكن ان ينتج عنها الاّ الفاسد ولا يمكن ان تصنع غيرالفساد . وكانت غايتهم واحدة ايضا وهي اسقاط حكومتي كلا البلدين ورحيل نظاميهما . ولمّا كان المستفيد الأول من هذين النظامين الفاسدين هو أيران ، فمن الطبيعي جدا أن تقف بجانبهما وتدعمهما بكل قوّة ، وتقف ضد الشباب المتمرد وتتهم حراكهم بالتهمة الجاهزة والمكشوفة وهي عمالتهم للأجنبي ، وتحرّض وكلاءها في كلا البلدين للوقوف بوجه هؤلاء الشباب . وأمام تنامي الحراك الشبابي في كلا البلدين بدأت الحكومتان باطلاق حزمات من الاصلاحات الاقتصادية والادارية على اعتبار ان الحكومتين تستجيبان لمطالب الحراك الشبابي ، وكلا الحكومتين لا تهدف الاّ لشراء مزيد من الوقت لأمتصاص غضب الغاضبين . بيد أن الكل يعرف ان حزمات الاصلاح لا تعدو سوى وعود غير قابلة للتحقيق لأسباب اقتصادية وادارية وبنيوية تتعلق بهيكلية كلا النظامين ، وتغوّل الطائفية في مؤسساتهما التشريعية والتنفيذية والقضائية .

هذا ما جرى ويجري في كلا البلدين ، ولكن ما هي المآلات ! وهل يستطيع هذا الحراك الشبابي المتدفق اسقاط العملية السياسية في كلا النظامين ! دعونا نتفق ان ما يجري لايمكن ان يكون خارج اطار ما يجري على سطح صفيح الشرق الاوسط المتلظي . ربما ما يحدث في العراق ولبنان هو الطبعة الثانية للربيع العربي الأول ولكن بشكل معاكس. فاذا كان الربيع الأول قد قام وأنتج لنا صراعات مذهبية وطائفية واثنية ومناطقية ، لا زال أوارها يستعر لغاية الآن في مشرق الوطن العربي ومغربه، فان الربيع العربي الثاني يقوم على نبذ الطائفية والعنصرية ويدعو الى اعتماد الهوية الوطنية الجامعة . يكفي الحراك الشبابي في العراق ولبنان فخرا انه رفع البطاقة الحمراء عمليا بوجه أنظمة المحاصصة والطائفية ، ولكن ماهي مآلات هذا الحراك وأهدافه !

انّ اي تحرك لايمكن ان يتواصل مآله ويتحقق الهدف المرجو منه الاّ بتوافر شروط موضوعية، فليس بالعوامل الذاتية وحدها يتحقق النجاح . العملية السياسية في لبنان قائمة على اساس اتفاق الطائف( 1989 ) المدعوم دوليا وعلى اساس التوافق . اتفاق الطائف نص على ان يتقاسم المسلمون والمسيحيون مجلس نواب لبنان بالتساوي ، والتوافق أكّد على ان يكون رئيس الجمهورية مسيحيا مارونيا ورئيس الوزراء مسلما سنّيا ورئيس مجلس النواب مسلما شيعيا . وهذه الصيغة هي الصيغة المدعومه دوليا ، ويصعب ان لم يكن مستحيلا تغييرها في الوقت الراهن ، الا بتغير شروطها الموضوعية ، بمعنى انه امّا أن تفقد العملية السياسية في لبنان دعمها الدولي ، أو الدخول في حرب أهلية أخرى ، وليس في الافق ما يشير الى مثل ذلك . والأمر ذاته ينطبق على العراق ، فاستنادا الى مجمل القرارات الأممية الصادرة عن مجلس الأمن ، منذ سقوط النظام في 2003 ولغاية الوقت الحاضر ،وكذلك جميع تقارير بعثة الأمم المتحدة للمساعدة الانسانية في العراق من دون اي استثناء تؤكد على مبدأ المشاركة في الحكم والتوازن في المؤسسات . ولقد فهم من ذلك وتأسس عليه أيضا ، أن المشاركة تعني حصول العرب العراقيين الشيعة على حصّة 60 % من اعضاء مجلس النواب ، وحصول العرب العراقيين السنّة على حصّة 20% والكورد العراقيين على حصّة 20% ايضا . وفهم من التوازن ان يكون رئيس الجمهورية كورديا ورئيس مجلس الوزراء شيعيا ورئيس مجلس النواب سنّيا . وهذه المحاصصة الطائفية والاثنية هي التي اعتمدت عليها العملية السياسية القائمة في العراق لحد الآن ، وهي تحظى بدعم أممي ودولي كبير . وهي على شاكلة الوضع في لبنان يصعب تغييرها من دون تغير شروطها الموضوعية ، بمعنى ان تفقد العملية السياسية دعمها الدولي ، أو أن ينخرط طرف أو أكثر في حرب أهلية لتغييرها . وليس في الافق ايضا ما يشير الى مثل هذا الأمر في الوقت الراهن ( مع التأكيد على الوضع الراهن )، فلا المجتمع الدولي تخلى عن دعمه للعملية السياسية ، ولا طرفا عراقيا مستعد للمغامرة في حرب أهلية .

وعلى الرغم من التشابه الكبير بين ما يجري في لبنان وما يجري في العراق ، الاّ ان نظام المحاصصة الطائفية والمذهبية في لبنان أكثر عمقا وأوسع مدى . فقد تشكّل على اساس مخرجات الميثاق الوطني اللبناني ( اتفاقات غير مكتوبة ) الذي عقد عام 1943 بين المسلمين والمسيحيين بخصوص تقسيم الرئاسات الثلاث ، ولا يزال هذا التقسيم مستمرا لغاية اليوم ، ولم يتمكن اتفاق الطائف من تغييره ، وقد تآلفت اليه الناس وأعتادت عليه واصبح ثقافة تتوارثها الأجيال . أما في العراق فالوضع مختلف ، فلم يعرف نظام المحاصصة الاّ بعد عام 2003 وتحديدا أثناء تشكيل مجلس الحكم بعد سقوط النظام السابق . ومنذ ولادته القيصرية وهو مغضوب عليه ، فما اعتادت عليه الناس ولم تتآلف اليه ، وكلمّا مرّ الزمن ، ازداد خطره ، ولم يعد حاضنة لتفقيس الفاسدين والفساد وناهبي البلاد والعباد فحسب ، بل أصبح خطره وجوديا يهدد مستقبل العراق وشعبه ، ويتصاعد هذا الخطر طرديا كلما تصاعدت حدة النزاع بين الولايات المتحدة وأيران على أرض العراق .

من يتصور ان الحراك الشعبي الحالي في العراق مقتصر على المطالبة بحقوق حرم منها فقط ، فهو واهم جدا . انه حراك يتعلق بالاصرار على الهوية الوطنية التي جرّده منها نظام المحاصصة . انه يريد عراقا سيّد نفسه كما كان دائما . يريد نظاما وطنيا غير طائفي ، يضع الشعب ، كل الشعب ، في المقام الاول ، يريد عراقا منتميا لأمته العربية والاسلامية ، لا عراقا سائبا ، ضائعا من دون جذور .

واذا كان لبنان قد كيّف نفسه وفق نظام محاصصة عريق ، وان اجيالا من اللبنانيين قد ابصرت النور وهي لا ترى غير المحاصصة نظاما في السياسة والادارة والجيش وقوى الأمن ، فأنّ الأمر ليس كذلك في العراق الذي باتت خياراته محدودة ، فامّا أن يقوم النظام بعملية اصلاحات جدّية شاملة سياسية وادارية وأقتصادية واجتماعية ودستورية من داخل نفسه ، يحفظ فيها للعراق وجوده وكرامته ، وهناك شكوك كبيرة في أن تكون الطبقة السياسية الحاكمة الغارقة في الفساد قادرة على فعل ذلك ، وامّا اراقة المزيد من الدماء حتى يتحول الحراك والتمرد الى ثورة تحرق الاخضر واليابس ، اذا لم يكن الآن فبعد حين ، أو ان ينقسم العراق الى أكثر من جزء ، ويضيع بلد عريق كان اسمه في يوم الايام عراق .