ما بين مفردتي (انطوت – لن ارتديها مرة أخرى قط )حملت دفتي الكتاب الذي بلغت عديد صفحاته 247 صفحة من القطع المتوسط والذي صدر قبل أيام قليلة في برلين. سيرة ذاتية ومجموعة من مذكرات ومشاهدات عن حرب السنوات الثماني بين العراق وايران أو ما تسمى قادسية صدام المجيدة عند العراقيين أو حرب الدفاع المقدس عند الإيرانيين ، وهي شهادات تكاد تذكر للمرة الأولى بهذه العلانية . إذ أن كتاب تاريخ الحرب من الجانبين عدَوها مثابة تطهير للجسد من الدماء الزائدة وهو أمر اثبتت الأيام بأن كلا البلدين العراق وايران ابان الانتقال الذي رافق استلام وتسليم السلطة في عام 1979 كان بحاجة للتخلص من جيلي الخمسينات والستينات حتى يتم تنشئة أجيال جديدة تؤمن بمقولاتهما المزعومة .
آخر الحروب التقليدية في القرن العشرين:
تحتوي دفتا الكتاب على مشاهدات تنقلنا إلى أجواء الحرب العالمية الأولى، خنادق، شقوق في الصخور، كهوف، ملاجئ مغطاة بالرمل والصفيح، أسلحة، دبابات، طائرات بعلو منخفض، إطفاء الأضواء، سفوح جبلية، كثبان رملية، لذلك يصدق وصف آخر الحروب التقليدية في القرن العشرين على تلك الحرب والتي امتدت لمدة ( 2876) يوما بالتمام والكمال اكتظت بمشاهد الموت بدء من جليل الذي دهست رأسه سيارة للجيش بخطأ غير متعمد وانتهاء بآخر شهيد في الحرب .
ملهم يمد سلكاً الى ثلاثة عقود ونصف انقضت :
ينقل ملهم الملائكة طبيعة الحروب من دون رتوش، ويؤكد في أكثر من موضع بأن وقودها كان غالياًجداً من الشباب الذين كانوا تطحنهم آلة الحرب فهو الذي كان يخدم بصفة ضابط مجند على صنف المخابرة والذي كان له الدور الأكبر في إبقاء التواصل بين تشكيلات الجيش ومعرفة مجريات المعارك، وإذ يعترف بأن مخططي الحرب كانوا يجلسون في مكاتب فارهة فإنه كان يمد اسلاكه بمعية جنوده في اضنك الظروف وأحلكها وهي عندما يشتد الوطيس ويتصاعد غبار المعارك، لذلك ليس بغريب عندما يصف مرافقيه باليوم الأول من الحرب بأن أحدهم كان شديد السواد والأخر شديد البياض، مما يشي بدلالة رمزية في يوميات الحرب التي كانت تتوزع بين الأبيض والأسود وبين من كان يعيش أجواء المعارك بسواد أدخنتها وبين من كان يحظى بالهواء البارد هو ومن احتفل بالانتصار الذي صور بأنه انتصار لقائد أوحد يمسك البندقية ويحشو المدفع ويمد أسلاك المخابرة وينصب الألغام ويعالج الجرحى ويطيب نفوس محبي وأهل الشهداء .
النقيب شملان حالة تجذرت في العسكرتارية العراقية :
نقرأ في حكايات الكاتب ومصادفاته عن النقيب شملان وهو استعارة لحالة وجدت في المؤسسة العسكرية العراقية وهي الكذب على القادة، فمسلسل الانتصارات عنده لا ينقطع وإبادة العدو تتم حتى لو لم تبصرها الأنظار ولكن تبصرها كلمات شملان، وليس ببعيد عنه استمر هذا الحال، إذ نستذكر لقاءات صدام مع الضباط قبل حرب 2003، والتي كانت تعرض على شاشات التلفاز آنذاك بأنها حالة الاستعداد عالية حتى أن الجندي عندما يخرج من دورة المياه يجد صابوناً معطراً أمامه ليغسل يديه فيها، وآخر قالها بالعامية (سيدي شيابنا يسلمون عليك ويكولون هو يشكك واحنا نخيط) أي ينقل سلام كبار السن في منطقته وهم من السادة القريشية من منطقة غرب الموصل بأنهم سوف يقفون إلى جانبه باستخدام مكانتهم الدينية والدعاء على من يعاديه، وكذلك تقارب حالة شملان اعترافات مهدي الغراوي في المشاهد التي كان يقول فيها بأنه اعتقل كذا وقتل كذا من تناصر تنظيم داعش الإرهابي في جنوب الموصل وفي المشهد الدراماتيكي الأخير قرب الجسر الثالث في الموصل.
في الحرب تتناسل الأخطاء :
لا شيء يقف أمام آلة الحرب فهي تسحق البشر بنيران العدو وأحيانا بنيران صديقة، وتمتد نارها لتصل إلى كل ما يقف أمامها أو يحاول أن يعيش معها، وينقل هنا الملائكة مشاهداته عما طحنته الحرب من شباب وكيف أن فيالق الشباب كان تدخل الى المحمرة وتغور فيهم صبخة (أي الأرض الصبخة ) في منطقة شرق البصرة والمحمرة ، وقد لا تكتفي الحرب بهذه أو بتلك فهي طحنت معها في مضيق بايطاق ووادي بردي علي، الخيول والماشية والكلاب التي دفعت ضريبة وجودها بين المتحاربين ولم تدرك أنها تعيش في وسط جحيم الحرب، أما في رمال شمال شرق البصرة فهي طحنت ثعابينها وعقاربها وحتى ذبابها وبعوضها الذي لم يطق شم روائح البارود وادخنة الحرب، لوم ينج من هذه أو تلك النخيل الباسق الذي كانت تطحنه الحرب وكانت تحتمي فيها فرق الإعدام الحزبية التي كانت تقتل كل من كان تعتقد أنه هرب من الحرب أو كتبت له حياة جديدة. وتعلق جثثهم على جذوع النخيل بينما تسقي دمائهم أرضها.
ملامح الحزن ترتسم بحصالة الموت
قراءة الكتاب من بدايته إلى نهايته لم ترتسم فيها مشاهد الحياة ما بين وميض وضوء الحرب شرقي الطريق البعيد والبيوت المضاءة على غربي الطريق فانبلج مشهد طريق الموت الذي كان ينقل الجنود والمراتب عبر طريق بغداد البصرة مرورا بالكوت والعمارة، كانت السيارات والشاحنات تنقل الأحياء والأموات تنقل البداية والنهاية، تنافس فيها المدعوون للولاء ممن ارتقوا سريعاً ولم يكونوا مهيئين لها عبر زج الحزب بأسمائهم ليكونوا ضباط ويقودوا معارك كتب لها خسارات لم تعلن وقتذاك لتنهل أصوات تعلو على صوت المعركة فيسرد الملائكة عن جملة حالات صادفته في الحرب من مثل هذا النوع ، وكذلك يروي ما صادفه في مقر الصنف عندما وجد جيشاً فضائياً كاملاً لأنهم من أصحاب الحظوة وكانوا ممن وجد من يبكي على حالهم وهم أحياء .
خاتمة: هل من مزيد ؟
يختم ملهم كتابه بعبارة (لن ارتديها مرة أخرى قط ) وهي بمثابة اعلان للانتقال إلى الحياة المدنية بعيداً عن أوامر العسكر العمياء، وهي فرصة مناسبة كانت لمراجعة الحرب وكم خسرنا وكم ربحنا منها علما انه لا يوجد منتصر في الحروب إلا من كانت له صولة كاملة واخضع فيها خصمه، وكانت النتيجة الأولى هي “أرجع كما كنت قبل 2876 يوم من بداية الحرب ووفق قرار مجلس الامن“، لذلك فإنها مثلت فرصة لتطوير القدرات على مستوى الحياة العامة والاستفادة من دروس الحرب وعدم الوقوع في كمائن مغامراتها مرة ثانية إلا أن العراق ولأنه لم يستفد من تجربة الحرب ولم يحص القتلى والجرحى والمصابين فضلاً عن انه لم يحص الآثار الاجتماعية والنفسية التي تركتها الحرب، فلم تزل ذاكرتي تستذكر مظهر السواد الذي كانت ترتديه والدتي وجدتي وعماتي، ووقتذاك لم استغرب من ذلك المنظر لأن كل النسوة كن يتشحن بالسواد فهن وقود الحرب التي بقيت النار فيها مشتعلة ولم يتمكن في يوم من حبس دموعهن على فقدان أعز من يملكن سواء أكان زوجاً أم أخاً أم أباً أم عماً أم خالاً أم ابناً…الخ ، ولأنه لم يكتب تاريخ الحرب إلا المحتفلين بنخب انتصاره فقد كان الاستفادة الوحيدة من الحرب هي نشوة “الفارس” التي دعته إلى مغامرة ثانية وثالثة ورابعة، وفي كل مرة كان فيها نقيب شملان هو من يخطط لها ويتشح صدره بأوسمتهاومغانمها.
مسك الختام بقي باباً مفتوحاً للمراجعة وتدوين الأحداث التاريخية حتى تستفيد منها الأجيال اللاحقة وتفكر ألف مرة قبل أن تغني “أحنا مشينا للحرب…عاشك يدافع من اجل محبوبته“، وأن لايجعل دموع محبوبته تنهمر كما تنبأت حسناء بعقوبة ذات العينين الخضراوين .
كلية العلوم السياسية / جامعة الموصل
البريد الالكتروني : [email protected]