هذه المقالة إستقيتها من “محاضرة” ألقيتها وسط ندوة أقامتها “جمعية رعاية المحاربين وأسرهم” في “بغداد” عام (2005) بمناسبة الذكرى السنوية/2 لقرار حلّ وزارة الدفاع والقوات المسلحة وعموم الأجهزة الأمنية العراقية الذي أمضى عليه الحاكم المدني الأمريكي السفير “بول بريمر” يوم (23/5/2003)…
وقد حوّرتها لتكون ملائمة في الذكرى/13 لذلك القرار الكارثي
المؤلم الذي جلبت أوزاراً وخيمة على جيش العراق وأجهزته ومؤسساته الملغاة فحسب بل عموم الوطن ونتائج كارثية على جلّ مواطنيه
وفي هذا الشأن الخطير لا أنسى حقيقة كبرى وسط العديد من البحوث الرصينة التي إطّلعتُ عليها وتعمّقتُ في متونها أوائل عام (2003) -بحكم عملي خبيراً إستراتيجياً لدى “مركز الدراسات الدولية/جامعة بغداد”- قبل أسابيع فقط من الغزو الأمريكي-البريطاني لوطني الحبيب، وقد أعَدّتـْها مراكز ومعاهد بحوث ودراسات سياسية/استراتيجية/مخابراتية ذات ثقل ومستويات رفيعة قبل أن ترفعها أمام أنظار صانعي القرار في “واشنطن”، فقد تلوتُ في متونها جميعاً وإستشفيتُ وجهات نظر متباينة حول كيفية إدارة الحرب على العراق وضرورة إسقاط نظامه السياسي القائم بأقصى سرعة ممكنة، وأساليب مقترحة لكيفية إدارة حكمه من بعد ذلك…
تلك المراكز التي كانت متباينة بشكل أو بآخر في وجهات نظرها بشأن الغزو ومخاطره ومدى نجاحه وإحتمالات إخفاقه… ولكنها كانت متّفقة تماماً لدى عرض مقترحاتها وتوصياتها على ((مسلكين رئيسين)) إعتبرتهما في غاية الأهمية ومن ((الوجوب)) تحقيقهما على أرض “العراق” بعد إنهيار نظامه السياسي:-
الأولى:- أن تحمل القوات الغازية على ظهورها ((حكومة وطنية عراقية)) -ولو كانت ضعيفة- تناط إليها إدارة العراق فور سقوط النظام.
والثانية:- أن ((تبقى)) القوات المسلحة العراقية على حالها شريطة تطهيرها من قادة وعناصر مؤيدة ((بحرارة)) للنظام السابق كي لا يحدث إنفلات أمني قد يودي بهذا البلد الى عواقب لا تعرف نتائجها.
لكن المستغرب أن وجهات النظر والرؤى التي سلّطت أضواءها على تلك الحرب -وكانت وشيكة- قد تمّ الأخذ بها وطـُبِّقـَت في معظمها… ولكن النقطتان الأهم واللتان خصَّـتا ((أمن العراق ومستقبله القريب)) قد أُبْعِدَتا عن التنفيذ… فلا حكومة عراقية حُمِلَت على أكتاف الغزاة، ولا قوات مسلحة عراقية وأجهزة أمنية بقيت في أرض الواقع.
ومن البديهي أن أية دولة في العالم تستند في إدارة شؤونها وتسيير إستراتيجياتها على مرتكزَين أساسَين لا ثالث لهما، أولاهما الوسائل الدبلوماسية، وثانيتهما القدرات العسكرية، إذْ ينبغي موازنتهما وإستثمارهما على أفضل وجه وتحقيق التناغم فيما بينهما لإستحصال الأهداف التي تضعها القيادة السياسية للدولة نصب عينيها… فالوسائل الدبلوماسية يفترض أن تسيّر أمور البلد في ظروف السلم وتحاول بشتى الوسائل إبعاده عن الحرب، مستثمرة المؤسسات والدوائر المتاحة لدى وزارة الخارجية على وجه الخصوص وما هو متاح من الأدوات الإقتصادية والعلمية
والثقافية والإجتماعية بشكل عام وفقاً لمعاهدات وأحلاف وإتفاقيات وبروتوكولات…. لكن الدولة يجب أن توفّر لديها وراء كل ذلك أدوات مسلحة مقتدرة ومجهّزة تقف ظهيراً وبالإستعداد الكامل بغية الحفاظ على كل الوطن وما يحتويه، وبمثابة عصا غليظة ومرفوعة ومتهيئة إن حصل طارئ، وتكون قادرة على الردع والدفاع عن الأرض والضرع والسماء والماء والتعرض حيال الخصم والإستباق بالتوغل في أعماقه.
ولذلك تمخّض عن القرار الأمريكي بحلّ القوات المسلحة العراقية والأجهزة الأمنية فقدان تلك الأداة الرادعة داخل الوطن قبل حدوده، حيث عمّت الفوضى وشاعت أعمال نهب مؤسسات الدولة ومنشآتها العديدة قبل أن تـُحرَق جميعاً من دون تمييز، فيما تعرّضت الدوائر الخدمية الى السرقة وأعمال التدمير والتخريب والحرق بهمجية غير مسبوقة… وإنعدم الأمن والأمان وطفحت الأعمال المسلحة ضدّ الدولة صاحبتها عمليات ارهابية مروّعة آذت المواطن العراقي فلم يعد مطمئن البال على ذاته وأفراد عائلته حتى في مسكنه على مدار الساعة…
وسابت حدود العراق الدولية مع (6) دول مجاورة، فتدفّقت عناصر متنوعة مسلحة نحو الداخل، ليس للجهاد الذي أعلنوه فحسب، وإنّما لتصفية حسابات مع الأمريكيين والبريطانيين وعساكر غيرهم من ذوي الجنسيات المتعددة على أرض العراق… كما نقلت الأسلحة والأعتدة والمفرقعات شديدة الإنفجار من مستودعاتها ومخازنها وخُبِّئت داخل “بغداد” والمدن الكبرى والبلدات والقرى والبراري والبساتين والكهوف، وأُستخدمت ضد الدولة العراقية ومؤسساتها والقائمين الجدد على إدارتها…
في حين لم تعد دول الجوار تخشى سطوة “العراق” وهيبته المعروفة إقليمياً، بل وأُخرِجَ من موازنات الإستراتيجيات المعتمدة في “الشرق الأوسط”، فإندفعت جميعاً للتدخل المفضوح في شؤونه الداخلية، داعمين العمليات المسلحة في بقاعه من أجل تصفية حسابات قديمة وجديدة ومستحدثة، فضلاً عن أغراض مستقبلية عديدة… فتحول “العراق” الى جبهة مواجهة في أرضه وعلى حساب مواطنيه مع ما يسمّى بـ”الأرهاب العالمي” لإستبعاد المخاطر على الولايات المتحدة الأمريكية وعموم العالم الغربي، وإنبثقت عصابات جرائم منظمة وإرهاب بثت الرعب وسط مراتع خصبة لأغراض القتل والخطف والإبتزاز وأخذ الثارات الشخصية والعشائرية وتهريب المخدرات والأسلحة وتداولها أمام الأنظار، تصاحبها صولات وجولات لأناس ساقطين في طول “بلاد الرافدين” المعروفة بالحضارات العريقة وعرضها، وتدفّق عناصر من مخابرات البعض من الدول ذات الأهداف المغرضة وتمركزوا في “العراق” ليؤدوا أدواراً خبيثة للحيلولة دون إستقراره.
وقد تمخّض كذلك عن حلّ القوات المسلحة العراقية نتائج إقتصادية إشتملت عموم الدولة، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، بعد أن كانت -بجميع مستلزماتها- قد كلّفت موازنات “العراق” لعشرات العقود من القرن العشرين -بدءاً من عام (1921)- ترليونات الدنانير (وقتما كان الدينار يعادل 3.13 دولاراً) لتمسي -بين عشيّة وضحاها- بجملة قياداتها وتشكيلاتها ووحداتها وأسلحتها ومعسكراتها ومستودعاتها وقواعدها المادية والتدريبية ومؤسساتها العلمية والخدمية هباء منثوراً، في حين تتطلب إعادة التأسيس ((المفترض)) لهذه القوات وبناها التحتية جهوداً مضنية ووقتاً ثميناً ومئات المليارات من الدولارات، ليس لتعود الى سابق عهدها وماضيها المعروف، بل لمجرّد أن تقف على قدميها بعض الشيء في ظروف دولة يمكن وصفها بالمنهارة في أكثر من منحىً…
وقد مُحيَ ما كان قد تبقّى من منشآت التصنيع العسكري العديدة والمقتدرة التي كانت تدرّ على القوات المسلحة العديد من إحتياجاتها الأساسية، فضلاً عن إمكانات الإفادة من منتجاتها في المجالات المدنية وخدمة الوطن والمواطن، فيما هُرِّبَت المواد المدمرة والأنقاض المحتوية على معادن ثمينة، ناهيك عن الآثار التي لا تقدّر بثمن الى الخارج وبين المحافظات مقابل مبالغ بخسة ومهينة أُنزِلَت في جيوب عملاء الإحتلال… ونقلت رؤوس الأموال المرصودة من دون رقيب أو حسيب، فيما أُعْتـُدِيَ -وفقاً لتخطيط متقن وتنفيذ بارع- على المنشآت الأقتصادية والحيوية التابعة للدولة والمشاريع المهمة التي كانت تحت الإنجاز وإقتحموها عنوة أو قصفوها، وفجروا أنابيب النفط الخام وضربوا صهاريجه ومئات الشاحنات العملاقة المحمّلة والمستودعات الممتلئة بالمواد ونهبوها في وضح النهار بسبب إنعدام إمكانات الدولة على تأمين سلامتها…
وتفشت آفة البطالة، وتحوّل مئات الآلاف ممن كانوا يخدمون في صفوف القوات المسلحة ودوائر الأجهزة الأمنية المتنوعة إلى مجرد أناس يذرعون الشوارع محرومين من لقمة العيش، فأُضطرّ العديد منهم للإنخراط في صفوف القائمين بالعمليات المسلحة، أو باتوا أفراداً ضمن عصابات، أو أمسوا يستخدمون السلاح مستهدفين الحصول على لقمة العيش، او الثراء بالسحت الحرام… فيما هاجر ملايين العراقيين تحت تأثير الظروف الامنية أو الإقتصادية، وإضطروا للعمل غير اللائق في أقطار طالما إقتاتت من فُتات موائد العراقيين وأموالهم طيلة عقود مضت، وإنضموا إلى (4) ملايين كان قد تركوا الوطن في عهد النظام السابق من دون أن يعود معظمهم إلى “العراق الجديد” رغم مزاعم السياسيين والمستفيدين الجدد… بينما إضطر العديد من ذوي الفكر الثاقب والإختصاصات الدقيقة الى ترك الوطن ليفيدوا دولاً أخرى.
ونضيف لكل ما أوردناه تلك الإرهاصات النفسية والأمراض العقلية التي سادت عموم العراقيين، وعلى وجه الخصوص النساء والاطفال، جراء التفجيرات والعبوات الناسفة والسيارات الملغومة، وسيول الدماء وتهرّؤ الاجساد وتناثر الجماجم أمام ناظريهم…
وتضاءلت الثقة بالدولة وإنهارت هيبتها جراء الآمال الكاذبة والوعود الخلاّبة بشأن الإستقرار والعمران والديمقراطية والتعددية والحرية والفيدرالية والأجندات المزعومة والتطور الناجز، وإنعدم إحترام القانون مصحوباً بإنفلات اخلاقي غير مسبوق في تأريخ البلاد، لمحدودية امكانات الادوات المتوفرة لدى سلطتيها التنفيذية والقضائية ناهيكم عن الفساد المخبوء تحت عباءات الذين يزعمون كونهم ممثلي الشعب تحت قبة البرلمان بمثابة سلطة تشريعية، ما تسبّب في تفاقم الفسادين الإداري والمالي وإستغلال النفوذ وإستثمار المناصب بشكل مشهود ومظاهر الرشوة والإختلاس وسرقة المال العام… وتحوّل العديد من حثالات المجتمع جراء السرقات والنهب والسلب الى شخوص ذوي ثراءٍ فاحش، مستغلين أموالهم في أمور مخجلة وساقطة لتسيير مصالحهم وترغيب المواطنين وترهيبهم مقابل السحت الحرام، ما جعل البعض منهم سادة الشارع العراقي اللاعبين في سلطاته الأربع (وليس الثلاث كما يُشاع) من دون منازع.