المعنيون في الساحة الفلسطينية مطالبون بالإقدام على مراجعة خطاباتهم وبناهم وأشكال عملهم في لبنان، لا سيما في ما يتعلق بشأن التواجد المسلح في هذا البلد.
مجّددا ثمة مخيم فلسطيني آخر في لبنان هو “عين الحلوة”، جنوبي صيدا، تحت النيران، علما أنه من الطوب والصفيح، بمعنى أن رصاصة واحدة يمكن لها أن تخترق جدران عدة بيوت فيه، مع ذلك فإن الحرب دارت هناك، بين المتقاتلين، بصواريخ الآر بي جي والقذائف الصاروخية، من دون أيّ مراعاة لأهالي المخيم المروّعين، المغلوبين على أمرهم، والذين دفعوا من قوتهم اليومي ثمن كل طوبة في بيوتهم الرثة.
نحن إزاء مخيم آخر للاجئين الفلسطينيين يتعرض للدمار بعد تل الزعتر والضبية وصبرا وشاتيلا وبرج البراجنة، ومخيم نهر البارد في شمال لبنان الذي شهد صعود ظاهرة “فتح الإسلام” الذي اختفى زعيمها شاكر العبسي بـ“معرفة” النظام السوري.
يمكن أن نضيف إلى هذه السلسلة دمار عدد من المخيمات الفلسطينية في سوريا وتشريد سكانها في السنوات الماضية، لا سيما مخيم اليرموك قرب دمشق وهو أكبر مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، كما تم تشريد فلسطينيي العراق بواسطة الميليشيات الطائفية التي تشتغل لصالح النظام الإيراني، الأمر الذي يفيد بتصفية أو تفكيك مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في الخارج.
لا أحد يعرف عدد اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، أو ما تبقى منهم، بعد موجات الهجرة إلى الخارج خاصة إلى الدول الإسكندينافية، لكن الجميع يعرف أن معظمهم يعيشون في ظروف صعبة، لجهة حرمانهم من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية التي نصت عليها المعايير الدولية.
ورغم أن عددا كبيرا من فلسطينيي لبنان هاجروا إلى الدول الإسكندينافية والأوروبية وكندا والولايات المتحدة وأستراليا، بسبب هذه الأوضاع، ورغم أن الدولة اللبنانية لا تتحمّل شيئا من موازنتها إزاءهم، حيث تتولى وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، ومنظمات فلسطينية القيام بذلك، إلا أن قطاعا من اللبنانيين مازال يضيق بهؤلاء، معتبرا إياهم فائضا عن الحاجة، أو عبئاً أمنيا أو ديمغرافيا أو طائفيا، بادعاء رفض التوطين، علما أن أحدا منهم أو من فصائلهم لم يتحدث يوما لا عن التوطين ولا عن التخلي عن حق العودة.
الأنكى أن من تبقى من فلسطينيين في مخيمات لبنان باتوا بمثابة رهائن للجماعات المسلحة متضاربة الأهواء والسياسات والتوظيفات، خاصة بعد الخلافات والانقسامات الفلسطينية، وبسبب تراجع دور منظمة التحرير، وتحوّل ثقل العمل الفلسطيني إلى الداخل، وإقامة السلطة، وأفول دور اللاجئين في العملية الوطنية.
يستنتج من ذلك أن فلسطينيي لبنان دفعوا من وجودهم واستقرارهم وتطورهم، كلفة وتداعيات صعود المقاومة المسلحة (1968- 1982)، كما كلفة وتداعيات هبوطها، أي أنهم دفعوا ثمن وجودها بينهم وانفكاكها عنهم. والمشكلة أنهم في الحالتين عانوا التهميش، في المرة الأولى إزاء فصائل المقاومة التي اشتغلت على ضمهم إلى تشكيلاتها الميليشياوية، أكثر مما اشتغلت على تحسين أوضاعهم. وفي المرة الثانية إزاء الدولة والمجتمع اللبنانيين، ولا سيما إزاء القوى الميليشياوية المتغوّلة فيه.
فبعد أن كنا نسمع في الخمسينات والستينات والسبعينات عن نخبة فلسطينية في لبنان، فرضت وجودها في عالم الثقافة والصحافة والفنون والاقتصاد، بتنا نسمع اليوم عن صعود شخصيات أو كيانات ميلشياوية، وعن اشتباكات بين فترة وأخرى في هذا المخيم أو ذاك، لحساب أجندات متضاربة محلية وإقليمية؛ كما حصل مؤخراً، مع الشبهات التي تحيط بصعود مثل تلك الجماعات لصالح أطراف محلية (حزب الله)، أو إقليمية (إيران والنظام السوري).
يحصل هذا في وضع يبدو فيه المجتمع الفلسطيني في لبنان مغلوبا على أمره، إزاء السلاح والمسلحين، فلسطينيين أو غير فلسطينيين، ما يثقل عليه ويسهم بتدميره، وفي وضع تبدو فيه القيادة الفلسطينية عاجزة أو لا تبذل الجهود المناسبة لمساعدة فلسطينيي لبنان على تجاوز هذه الحالة، لا سيما أنها مسؤولة عن “التركة” التي أورثتهم إياها من حقبة الكفاح المسلح، وأنها تعتبر نفسها الممثل الشرعي الوحيد للفلسطينيين.
لهذه الأسباب بات الوضع يتطلب من الطرفين المعنيين، أي الفلسطيني واللبناني، الإقدام على مراجعة هذا الملف، بمختلف جوانبه، أي ليس فقط جوانبه الأمنية (المتعلقة بموضوع السلاح)، وإنما بجوانبه السياسية والاجتماعية والقانونية أيضا.
المعنيون في الساحة الفلسطينية مطالبون بالإقدام على مراجعة خطاباتهم وأشكال عملهم في لبنان، لا سيما في ما يتعلق بشأن التواجد المسلح في هذا البلد. ولعل ذلك يفترض العمل على طيّ مسألة التواجد العسكري في لبنان داخل المخيمات وخارجها، لقطع الطريق على استدراج الفلسطينيين في الصراعات الداخلية اللبنانية، ولوضع حد لعمليات التوظيف الخارجي للقضية الفلسطينية وللسلاح الفلسطيني.
نقلا عن العرب