23 ديسمبر، 2024 9:22 ص

ما أغلاك ياوطني……!!

ما أغلاك ياوطني……!!

قبل ايام كنت في رحلة عمل الى بعض دول الخليج العربي , وكانت دولة الامارات العربية المتحدة محطتي الاخيرة , ثم غادرتها الى احدى الدول الاوربية على متن طائرة الخطوط الجوية الاماراتية Emarate , وبعد ان اخذت الطائرة مسارها في زرقة السماء وانشغل كل مسافر في شأن يلهيه , لم تجد نفسي سوى خلوتها الى همومها ملاذا يقطعني عن كل ما يدور حولي ويؤويني الى عالم التأمل والفكر المستغرق في بحر خيالات وذكريات وظنون وهواجس وملامح جراح قديمات وافراح مطفأة في غمرة تراجيديا الزمن الاسود الذي عشناه ولم ننتبه انه سرق اعمارنا في زحمة فوضى الموت والدم والالم والحزن حتى لم نجد سوى الغربة وطنا و الدمعة زادا واللوعة سكنا وسكينة , انتبهت الى شاشة تلفزيونية صغيرة امامي تعج بصور وقنوات كثيرة تعرض مايمكن ان يسلي سفرنا وتشغل من هو مثلي عن تداعيات وانثيالات معتمة كالتي تملكني الان , وفي لحظة انقطع مسيل الصور والافلام المعروضة على الشاشة لاجدني فجأة امامه , في حضرته وبين يديه !! متوهجا شاخصا بحضوره الفارع البهي ملء العين والسمع والخاطر , لا اصدق انها صدفة محضة هذه التي منحتني كل هذا الفرح النوراني بين يدي الحبيب الاغلى الذي افتقدته على الارض فوجدته في السماء , لاشك انها نعمة ربانية اخرى يخصني بها الرحمن الذي ( انما امره اذا اراد شيئا ان يقول له كن فيكون ) وقد كان , انا أؤمن ان لرحمة الله عينا تنظر الى قلوب عباده الملتاعة من علياء سماواتها , ثم تهبط لتمسح دمعة هنا وتطبب جرحا هناك , تعطي فقيرا وتبرئ مريضا وتجمع شتيتين بعد طول فراق , وما ذلك الا بعض فيوض القدرة العلية على الارض كي لايخلو قلب من يقين مهما ارتبكت الرؤية واحتجب المدد ولاينقطع رجاء من دعاء مهما طال الامد . وقد لمستني انوار هذه الرحمة فجعلتني في لحظة بين يدي حبيب فارقته منذ شهور مرت علي كانها دهور , كنت اعد اسابيعها وايامها وساعاتها وهي تحبو قاسية متباطئة كانها بلا نهايات , صليت فيها بالف امل والف دعاء كي يمدني الله بعمريسع ان ارى الحبيب ثانية فاعيد للصدر اضلاعه وللقلب نبضاته الضائعات .
الشاشة التي امامي الان تنقل صورة عبر كاميرات الطائرة الخارجية فكتبت على تلك الشاشة العراق وصوت كابتن الطائرة قول : نحن الان فوق اجواء العراق , انقطعت انفاسي وحواسي للحظات بعد ان سمعت اسمه , عراااااااااااااق ملء الارض والسماء انت ياعراااااااااااق , ايها المارد العملاق ياسيد الحضارات , هل حقا انا الان بين يديك ذاهل القلب والعينين لا اعرف كلمات تليق بعظمتك كي اقول فقط : مرحبا ياسيدي وحبيبي بعد طول غياب , يا مالك قلبي المفجوع بالبعد عنك , يا ابي واخي وعمي وخالي , يا كل اهلي يا تراب السماوات ومجرى دموع الملائكة , ايها الرسول النوراني الى الارض يوم كانت يبابا وعمى وصمما , انت انبضتها خضرة ورؤية وحضارة وحروف كتابة وقوانين ومحبات سرّانية لم تعرف القلوب كمثلها وهجا ولا كُنهاً ولا طعما ولا تفسيرا , وقد صدقك من قال فيك :
عراق من النور وسع المآق وفجر على الكبرياء آستفاق
تمرّ به النوب العاديات ويبقى العظيم العظيم العراق
كأن يد الله فوق العراق كأن جميع البرايا عرااااااااق
انتبهت المضيفة الاجنبية وهي تمر قرب مقعدي الى حالتي الغريبة الاقرب الى الهذيان , مع تناثر واضح لدمعات ساخنة على جانب الوجه لم امسح حرقتها بعد , سألتني فأجبتها باشارة ان لاشئ فمضت وهي تغمغم من حالتي الغريبة , كنت منتشيا متلاشيا ثملا بخمرة عشق صهباء مترنحا باجنحة من حنين وانا اتلمس بروحي ملامح سمائه الفاتنة ,
انه العراق ايها القلب انه العراق
وطنك الذي فارقته مكرها ملوما مغموما محسورا مقسورا بعد ان طاردك اخوة وخفافيش الظلام وابناء الشياطين بغوائلهم وكواتمهم السافلة , هؤلاء الذين جاؤا من عزلة اطماعهم وحرائق ذلتهم ومنافي احقادهم السوداء , مجهولين منسولين من نطف الخيانة متسللين الى جنان احلامنا وشواخص كبريائنا كي يطعنوها جدبا وبلاء وموتا اعمى وسنين عجفاء لا يعلم لا الله متى تبرأ من درنها روحك ويلتئم جرح قلبك ايها الوطن العظيم .
اقف الان في حضرة ملكوتك مرة اخرى وبين اجنحة سمائك لاعيد لملمة القلب بذكريات وارفات ابيّات على الانكسار عصيات على النسيان , ايها الكل شئ في قاموس وجودي ,, وكل شئ سواك باطل وقبض ريح ,
يوم قال لي الاخوة والاهل والصحب والرفاق لم يعد لك وقت ولامتسع لحياة هنا يا سعد , وليس لك الا الرحيل مأوى أوحدا , بعد ان تربص بك المتربصون وشحذوا خناجر منيتك , ورسموا لقتلك الف وجه , فان لم يكن الرحيل من اجلك فمن اجل اهلك وامك التي لاتزال مفجوعة من اعتقالك , ما جريرة هؤلاء النساء والاطفال كي يدفعوا فاتورة معركتك مع هؤلاء الارجاس .
قلت : لا بأس , هي والله الميتة المشتهاة بين يدي العراق ومن اجله .
قال لي حكيم منهم : الحياة بين يدي العراق ومن اجله اثمن من موت مجاني بيد هؤلاء الذين يسجلون نصرا حقيرا كلما اغتالوا صوتا او اطفأوا نورا , اوغاد جهلة سفلة لايساوي احسنهم شعرة كلب مسعور , انه ليس موت فداء من اجل الوطن بل اغتيال موتور جبان مختبئ في زاوية او ظلمة نتنة , انهم يحلمون بعراق خال من الرجال الشرفاء صادقي العهد من ارباب الاصوات العالية كي يخلو لهم افقه وتحلو لهم سرقته .
قال لي صديق آخر , واحسبه بالغ في مجاملتي وتعظيم شأني امام نفسي كي يجمّل لي قرار الرحيل , ولكني لا اشك انه ناصح محب حريص , قال : انت صوت صارخ في وجوههم بالغ الوضوح في كوكبة اصوات العراق , صوتك يؤرقهم ويفضح سوء افعالهم وقبائح جرائمهم و لصوصيتهم المقيتة , ولاشك انه كألف مقاتل وألف بندقية , بل ربما اكثر , فلا تبلغهم مرادهم في الوطن وفيك , وما رحيلك هذا الا لتعود ذات يوم قريب بعد ان يكون الوطن قد تطهر من رجس هؤلاء ودنس مافعلوه , لسنا نحن الذين نشجعك على الخروج بل هو العراق الذي يأمرك ان تفارقه فراق الوامق المحب الوفي المخلص , وهو يعلم أنك لن تغادره ابدا لانه يسكن فيك , فأطع ولا تعص .
هكذا اطعت أمرك ياوطني العزيز فخرجت , لم أخرج اشرا و لا بطرا ولا هاربا ولا ناكثا ولا خذلا ولا طامعا ولا طامحا و لا طالب متعة او جاه او مال , فكل متعة وجاه ومال بل وكل مطلب بعيدا عنك ليس سوى هواء في شباك مخرّقة , لا يغني ولا يسمن ولا يرجى منه شبع وري وشفاء وهدأة عين .
عادت المضيفة اليّ مرة ثانية وفي وجهها شبح قلق عليّ كمسافر صارت تلوح عليه صفرة وتوعك فظنت انني ربما كنت مريضا احتاج دواء او مساعدة , اجبت عينيها المتسائلتين حتى قبل ان تتكلم : أنا عراااااااااقي , وهذا وطني الذي نحلّق في سمائه الان ) , وقد قرأت في عينيها انها فهمت انني الان عابد في صومعة او مصل في مسجد ولا يجوز لأحد ان يقطع عليه خلوته وتوحدّه , فانسلّت دونما كلمة وتركتني لتهجدي وذكرياتي التي صارت تنهال علي صورا متسارعة كامواج أضواء بارقة ,, انا الان في الباب الشرقي ,, بل في شارع السعدون , هاهي الوزيرية تغازلني بخطوات الصبايا العائدات من الكليات وهن اجمل صبايا اهل الدنيا كلها , هاهو المجمع الطلابي في الباب المعظم ,بل هذه العطيفية النائمة على كتف دجلة الخالد , الكرادة ومدينة الثورة تلوحان لي من بعيد , حي جميلة و الاعظمية , الصليخ , راغبة خاتون , علاوي الحلة , الصالحية , شارع الرشيد , سوق الغزل , الشورجة , سوق الصفافير , حي الجامعة , المنصور , حي الخضراء , الخضراء حقا وليست المنطقة الخضراء اللعينة , هاهي العرصات والجادرية المغتصبة ,, انها ملامح بغداد الفاتنة , سيدة قلبي , طيوف صباي وضحكات شبابي والتماعة اول الشيبات في راسي , مدارسي , كليتي , كتبي , اوراقي , بيتي الحزين الغارق في الظلام منذ شهور يبكي وحدته وتبحث عيناه الحائرتان عن خطوات والدتي التي تصلي في هذا الركن منه وتتوجه للدعاء لي في مكان آخر منه, هاهي اركان بيتي التي كنا نجلس فيها انا وبعض الاحبة وضحكاتهم لاتزال في ارجائه .
يا ألله ,, الرحمة يارب من كل هذا العذاب , كيف اطعت نصائحهم وغادرت كل هذا الجمال الذي لن ارى له مثلا ولاشبها في اكبر واجمل عواصم الدنيا ,
ايها الوطن الجميل : لماذا انت رغم فجائعك وحرائقك وانفجاراتك تظل مشرقا متألقا لا تطفئك كل جيوش الظلام الذين يحكمون ويقتلون ويسرقون بلا هوية ولا ادنى انتماء , لماذا أنت جميل هكذا مثل نصف جنة على الارض , بل مثل جنة وارفة بكامل نعيمها في عليين , قتلتني ياعراق , والله لقد قتلتني بالمحبة والحنين سامحك الله .
( هل سابدو مجنونا الان لو طلبت من كابتن الطائرة ان يغرف لي ولو قبضة كف واحدة من هواء الوطن , ابرد بها هذه النار المشتعلة في قلبي ولهاً عليك كي اعيد للنبض رصانته وللنفس رباطتها )
عراااق , ليس في الدنيا أطيب من هوائك وأعذب من مائك وأكثر بركة من رزقك وأهيب من شيوخك وأصلب من رجالك و أحنّ من امهاتك وأرق من بناتك وأوفى من أخائك وأكرم من جوارك وأطرب من غنائك وأرحب من بيوتك و أطعم من خبزك , قتلتني يا عراق والله لقد قتلتني .
حتى حزني فيك كان اجمل من فرحي بعيدا عنك ( وهل هنالك من فرح بعيدا عنك ؟؟)
هل ستذكر وجهي اذا طال غيابي عنك ؟ هل ستعرف ملامح حنيني وانيني ولوعتي وضجري وآهاتي وجراحاتي اذا صارت شهور غربتي سنينا ؟
هل ستربت على كتف لهفتي حين اعود اليك بعد ان يطول الغياب ؟
قد أموت حزنا اذا رايت في وجهك اعراضا او ترحيب مجاملة او صدى سلام بارد العينين ,
انني عاشق بقلب مجروح متعب مثقل بالبعد فهل تجيب اسئلتي ياسيدي وتمنحني بريق امل , عدني انني ساجد في صدرك الحاني ذات المأوى والحنو كأنني لم افارقك ابدا .
كنت انظر من نافذة الطائرة محدقا في السماء الفسيحة وانا انبس بكل هذا الرجاء حين اضاء لي فجأة وجه نوراني مبتسم , وجه بحجم كل السماء مهيب بلحية بيضاء مؤتلقة كانها من رحيق الجنة , أومأ لي بعيني رضاه وقال : لا تخف فالاب لا ينسى ابناءه مهما بعدت بهم المسافات وطالت ازمنة الغياب , لانهم موسومون في قلبه وذاكرته , وان موعدي معك ليس ببعيد , ستزول الغمة وسيرحل الاغراب القتلة , وستعود و يعود معك كل ابنائي الصادقين العهد البارين المحبة , قريبا , ربما اقرب مما تظن , امسك بعرى صدقك وشجاعتك ووفائك وسترى كيف ان الوطن يجزي المحب بمثل حنس عمله , سيرحل هؤلاء فقبلهم مر علي كأمثالهم كثيرون , ثم ذهبوا الى الجحيم كأن لم يكونوا ولم يغنوا شيئا من حياة , انه الاختبار والمحنة التي تعقبها المنحة , فصبرا جميلا يا سعد , صبرا جميلا . كدت اقفز من مكاني واصرخ فرحا وتهليلا فقد ناداني الوطن باسمي ,نعم لقد سمعته مليا , يقينا وليس وهما وهو يناديني باسمي , انه يعرفني بل ويعرف اسماء كل من يحمله في قلبه بصدق المحبة , انه العراق العظيم , انه العراق العظيم , التفت في هذه اللحظة لاجد المضيفة الاجنبية تنظر الي باستغراب وهي تحسبني في نوبة هذيان , قلت لها بالعربية رغم يقيني انها لا تفهم ما اقول : انه العراق العظيم , ابتسمت وقالت بالانكليزية yes I Know , ربما كانت تعرف حقا ,, وربما كانت تجاملني , المهم انني شعرت براحة عميقة , ثم اغمضت عيني لعلها تعرف طعم النوم الان .