23 ديسمبر، 2024 2:12 م

ما أشبه الليلة بالبارحة

ما أشبه الليلة بالبارحة

روى ابن خلكان في وفيات الأعيان :
أنَّ عمرو بن العلاء دخل على سليمان بن عليّ – وهو عم السفاح – فسأله عن شيء فَصَدَقَهُ ، فلم يُعجبْه ما قاله ، فوجد أبو عمرو في نفسه ، وخرج وهو يقول :

أَنِفْتُ مِنَ الذُل عند الملوك

وإنْ أكرموني وإن قَرّبُوا

اذا ما صدقتْهمُ خِفتُهُمْ

ويرضونَ مني بأنْ يُكْذَبوا

ابن خلكان/1/551

-2-

وكان يحيى بن عبد الله بن الحسن قد خرج على الرشيد بالديلم ، واشتدت شوكتهُ وقوي أمرهُ ، ونَزَعَ اليه الناس من الأمصار ….

ثم دعاه الرشيد الى الصلح فأجاب ، وكتب الرشيد أمانا ليحيى وأستشهد عليه الفقهاء والقضاة …

وجاء يحيى الى بغداد ، فأكرمه الرشيد أولاً، ثم تدّخل بينهما رجال السوء ،

فأراد الرشيد أن ينقض الأمان ، فدعا يحيى ودعا ببعض الفقهاء ، منهم ابو البختري القاضي، ومنهم محمد بن الحسن صاحب ابي حنيفة واحضر الأمان الذي كان أعطاه يحيى فقال لمحمد بن الحسن :

ماتقول في هذا الأمان أصحيح هو ؟

قال :

هو صحيح

فحاجّه في ذلك الرشيد ، فقال له محمد بن الحسن :

ما تصنع بالأمان ؟

لو كان محاربا ثم ولىّ كان آمناً

فاحتملها الرشيد على محمد بن الحسن .

ثم سال أبا البختري ان ينظر في الأمان ، فقال ابو البختري :

هذا منتقضٌ من وجه كذا وكذا

فقال الرشيد :

أنت قاضي القضاة ،

وأنت أعلم بذلك ،

فمّزق الأمان ، وتَفَلَ فيه ابو البختري )

الطبري/10/57

ضرب الرشيد برأي محمد بن الحسن عرض الجدار، ومال الى ابي البختري الذي زيّن له مايريد ، وجعله فوراً (قاضي القضاة) ..!!

أقول :

قلّ أن تجد في الحكّام والسلطويين من يبحث عن الحقيقة بحذافيرها ..!!

انهم يريدونك أن تنطق بما تهوى أنفسهم ، وهم لايأنسون بغير المديح الزائف ، ولا يطربون الاّ على تلك النغمات النشاز ..!!

فالويل ثم الويل لمن صَدَقَهُم ، وأرضى ربَّه وضميره ..!!

إنَّ المعركة حامية الوطيس بين الحقائق بعيدةً عن كل الشوائب ، وبين الرغبة في إضهار ما يريدُه السلطويون وكأنه الواقع بعينه .

انها اذن معركة الحقّ مع الباطل ..!!

معركة الصدق مع الكذب ..!!

معركة المبادئ مع المصالح ..!!

معركة المعارف مع الزخارف ..!!

معركة الأخلاق مع النفاق ..!!

معركة الاستقامة مع الزيغ والانحراف ..!!

ويأبى الأحرار من أصحاب الضمائر ان يخونوا الله والحقيقة ، فَيَلْقون ما يلقون من متاعب ومصاعب ، ومن تهميش وإقصاء …!!

ويُنتدب البارعون بفنون الملق والدجل والتضليل، ليكونوا البطانة والحاشية للحكام الذين يناصبون العداء للحقيقة والشرفاء ..!!

ولا شك ان السلطويين مخطئون في هذا المنحى ، المغموس بالنرجسية ، والبعيد كل البعد عن الموضوعية والعقلانية .

لماذا ؟

لأنهم بهذا المنحى يُصرّون على ان يكونوا بعيدين عن ملامسة الواقع ، ونبض الشارع ، وما تمور به الحياة من حراك ..!!

ومعنى ذلك :

أنهم يفضّلون (الجهل) على (العلم)، وهذه معادلة بائسة لايرتضيها العقلاء ، فضلاً عن المخلصين الحريصين على نجاة السفينة من الغرق ..

ان الله سبحانه وتعالى يقول :

(وأمرُهم شورى بينهم) الشورى /38

فالرجوع الى ذوي العقول والخبرة والحنكة والتجربة ، والتشاور معهم في قضايا البلاد والعباد أمرٌ في غاية الخطورة والأهمية ، لأنه يقود الى مرافئ السلامة ، والقرارات الصائبة …

أمّا التعويل على الذات وحدها، أو بانضمام (الإمعّات) اليها، فلن يوصلنا الى بَرِّ الأمان يقيناً .

ان المرجع الديني الاعلى الامام الراحل السيد محسن الحكيم – رضوان الله عليه – كان يستشير خادمه الافغاني في شؤون الطلبة الأفغانيين .

انه تمسك عملي رائع بأهداب الشورى ، وفيه من الاثارة والتحفيز لِحَمْلِنَا على الالتزام (بمبدأ المشاورة) ما فيه .

واذا كانت الاستشارة تتم في أبسط الأمور – كقضايا الطلبة الأفغانيين في الحوزة – فكيف لاتتم بكبرى القضايا التي تمس المصالح العليا للبلاد والعباد ؟

انه درس عملي ثمين جديرٌ بان لايُنسى .

ولقد عرضتْ بعض القنوات الفضائية صوراً لسيارات حكوميّة، مملوءة بصناديق تحمل مواداً غذائية كُتب عليها (هدية الحاج فلان) وقيل انها موجهة الى الفقراء في مدينة السماوة .

وهنا نقول :

1 – لماذا تحمل سيارات الحكومة هذه الهدية الشخصية ؟

أليس ذلك استغلالاً للمنصب ؟

ألم تصدر الفتوى الصريحة من المرجعية الدينية العليا بتحريم مثل هذه الهدايا لأغراض انتخابية ؟

2 – هل يتقبّل المسؤول المذكور نصيحة من يقول له :

لقد تجاوزت على القوانين والموازين ، في حين أنكَ مسؤول عن حمايتها؟!

3 – هل سيسارع الى الاعتذار عن ذلك ، والكفّ عن مواصلة تلك الأعمال ؟

4 – ما هو موقف المفوضية المستقلة العليا للانتخابات، وهي ترى ما يجري جهاراً نهاراً ؟ وماذ سيكون ردّها على هذه الاختراقات والمخالفات للقوانين؟

اننا لانستطيع ان نحصي المفارقات والاختراقات الموجودة فعلاً ، وقد سقنا هذه المفردة مثالاً على الركام الهائل من تلك الاختراقات ….

* [email protected]