-1-
اذا كانت الكثرة الكاثرة من التجار واصحاب المهن والحِرَف لا يهمها الاّ الاستحواذ على اكبر مقدار ممكن من المال ، فانَّ هناك رجالاً لن يحيدوا عن الامانة والرصانة في تعاملاتهم مع الناس وبالتالي فهم يرفضون ان يحوزوا من المال ما فيه غبن واجحاف وابتعاد عن المروءة والإنصاف .
انهم اصحاب ” أخلاقية ” تأبى الانحدار الى مستنقعات الجشع والطمع .
إنّ هذا الطراز من الرجال قد يكون نادراً ،ولكنه موجود في مختلف الأعصار والامصار .
وأين الغَثُّ من المسين ؟!
وأين المهزوزُ من الرصين ؟!
-2-
إنّ المؤرخين القُامى كانوا يدونون ما يمّر بهم من حوادث مُلفتة ، لتكون عبرة الاجيال، بينما لا نجد هذا الحرص شائعاً عند الكُتّاب المعاصرين – للاسف الشديد – .
-3-
وقد احتفظ لنا التاريخ بروائع القصص والحكايات، التي تعكس النبل والانسانية والمروءة والترفع عن ايقاع الناس في اي لون من ألوان الابتزاز …
ومن تلك القصص النافعة ، قصة التاجر الورع (يونس بن عبد الجليل)
وكان هذا الرجل من علماء عصره ،
وكان له متجر يبيع فيه الألبسة والثياب ومختلف أنواع الاقمشة وبأسعار متفاوته فيها الغالي والرخيص .
وذات يوم ترك ابن اخيه في المتجر وذهب الى المسجد فجاء (زبون) لشراء ثوب من الثياب واستلم منه أربعمائة درهم بدلاً من مئتين .
وحين رجع (يونس) والتقى بمشتري الثوب، سأله عن الثمن الذي دفعه فاخبره به فقال له يونس :
إنّ ثمن الثوب مئتان فقط ، فقال المشتري :
انني دفعت الثمن راضيا مختاراً ، والثوب في بلدنا يُباع بخمسمائة درهم ولستُ مغبونا ..!!
لقد اتضحت الصورة
فلا الزيادة المأخوذة كانت من قبل يونس نفسه ،
ولا المشتري كان متسخطا منها ،
ومع ذلك كله ، لم يتركه (يونس) حتى أعاد اليه مائتي درهم وقال له :
( إنّ النصح في الدين ،
والأمانة في الربح ،
خيرٌ من الدنيا وما فيها )
كما زجر ابن اخيه وقال له :
ألا تتقي الله في بيعك ؟
كيف تُطالب المشتري بدفع ضعف الثمن ؟ فقال :
انّ المشتري دفع الثمن راضيا مختارا ، فقال له :
اذا رضي المشتري فاننا لا نرضى لغيرنا الاّ بما نرضاه لأنفسنا .
وهنا تكمن العبرة
انّ (يونس) أرسى تعامله مع اخوانه على أساس أنهم نَفْسُه يُحبُّ لهم ما يُحبُّ لها ،ويكره لهم ما يكره لها .
ومن هنا رفض قبول الزيادة المأخوذه من أخٍ له، لم تربطه به علاقة وثيقة ولا صداقة عميقة ، ولكنه على حال رجل من المسلمين لابُدَّ ان يُحترم وتُصان حقوقهُ .
-4-
إنَّ مشكلة (العراق الجديد) هي الاصرار على الابتزاز، فالسلطويون يبتزون الدولة بالعقود والمشاريع الوهمية ويسرقون المال العام ،غير مكترثين بما تؤول اليه اوضاع البلاد من تخلف ودمار .
ويبتزون رجال الاعمال بما يجبرونه عليه من دفع العمولات الباهظة ..
ويتنافس رجال الاعمال على ابتكار الوسائل والاساليب لامتصاص الثروة الوطنية دون انجاز حقيقي ..
وهكذا تواصل الفساد في القطاعين الخاص والعام ، وعلى الأمانة والنزاهة والوطنية والمهنية السلام …
-5-
ومن الدواهي الكبرى ان كبار اللصوص والقراصنة ظلوا حتى الآن بعيدين عن المساءلة والحساب مما شجعّهم على التمادي في عملياتهم المحمومة وشجّع غيرهم على الاقتداء بهم حتى أصبحنا نسمع بمصطلحات جديدة من قبيل :
انّ الفساد ليست له ثقافة ،
وانما له رموز ورجال وعصابات تتقن فنونه وتقر عيونه ..!!
والله المستعان في غمرة هذا الطوفان …