(سيسقط التاريخ بتريوس، لكنه سيرفع شأن إنموذج الدولة التي أسقطته، إنموذج الدولة الديمقراطية المدنية المؤسسية المحترمة لذاتها ولجمهورها من أن تدنس بخطايا أرباب الدولة، فالدولة مؤسسة طهورية لا تحتمل الفساد والإفساد).
تشهد مؤسسات الولايات المتحدة الأميركية موجة اضراب كبيرة بسبب سلسلة الفضائح الجنسية التي كشف عنها مؤخراً، أهم أبطالها الجنرال ديفيد بتريوس مدير وكالة الإستخبارات الأميركية والجنرال جون آلين قائد قوات الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي في أفغانستان، ويتوقع أن تطال التحقيقات الجارية رموزاً سياسية وعسكرية لامعة في مؤسسات الدولة الأميركية منها وزارة الدفاع ووزارة الخارجية ووزارة العدل ووكالة الإستخبارات الأميركية.
ليست هذه الفضائح بالجديدة في دول العالم الحر، لقد سبقتها فضائح عدة تنوعت بين فضائح جنسية وتهرب من دفع الضرائب وفضائح تجسس، لعل أبرزها فضيحة (مونيكا كلنتون) عندما مارس الرئيس بيل كلنتون الجنس عن طريق الفم مع المتدربة مونيكا لونسكي، هذه الفضيحة التي توجت بمحاكمة كلنتون بتهمة عرقلة سير العدالة وشهادة الزور وانتهت باعتراف وخطاب اعتذار للشعب الأميركي ألقاه الرئيس بيل كلنتون في 17 أغسطس 1998م.
ماذا نستفيد نحن
فضائح الجنس السياسية وغيرها من الفضائح ليست حكراً على أميركا والغرب بل هي قائمة في مختلف دول العالم، وهي ليست بالجديدة أيضاً ولن تنتهي بفضيحة بتريوس وجون آلين، وأيضاً لا يتركز الإهتمام عليها من خلال البعد الشخصي، فهذه طبيعة الحياة البشرية،.. وهنا أستحضر قولاً لأحد العارفين إذ يقول: لو كانت الذنوب تفوح ما جلس أحد الى أحد.
الفضيحة التي تهز أركان الدولة الأميركية اليوم لا تتعلق بالشأن الشخصي لبتريوس وغيره، بل تتصل بالقيمة السياسية التي تحملها الفضيحة في ظل نظام الدولة الديمقراطية المدنية قبال أشكال الدولة الأخرى، وهذا ما يجب التركيز عليه، بالذات ونحن نعيش تحولات جوهرية في أنظمة مجتمعاتنا ودولنا التي تأن من ثقل الفضائح دونما ضرائب حقيقية يدفعها المفسدون.
ونحن نشاهد سلسلة هذه الفضائح؟ كيف لنا أن نقرأها ونسقط إيجابياتها على حياتنا السياسية ونحن في خضم إعادة إنتاج شاملة للدولة، وهل أنَّ الفضائحية فضيلة تضمن سلامة جسد الدولة من أن ينخره الفساد الذي لا يليق بمسؤولي الدولة ولا يجوز في عرف الدولة؟
الديمقراطية فضائحية بطبعها
الفضائحية هي إحدى سمات الديمقراطيات الراسخة، وهي ميزة وليست سبة، فما أروع النظام الديمقراطي وهو يعالج أخطائه بنفسه ويفضح مرتكبي الخطايا وينهي حياتهم السياسية والمهنية دون وجل من أحد ودون كبرياء وطني مصطنع ودون حصانة تتمرد على شرف المهنة وهيبة الدولة.
نعم، الديمقراطية فضائحية بطبعها، إذ لا يمكن تغطية الجرم وتسويته دون أن يدفع مرتكبه الضريبة ويعاد للمؤسسة هيبتها وللموقع حصانته، والسبب يكمن في طبيعة النظام الديمقراطي المدني ذاته التي تضمن فلسفته وآلياته تنقية جسد الدولة من أي تلاعب أو تحايل أو فساد.
عدة عوامل تهب النظام الديمقراطي القوة الذاتية في كشف الجريمة وعدم التستر عليها وجعلها سبة لا يمكن مداراتها بأي شكل، منها: سيادة القانون على الجميع دون محاباة أو تحايل أو تمرد، ومنها قوة مؤسسات الدولة قبال قوة الحاكم وهيمنته وسطوته، ومنها صدقية مبدأ الفصل التام بين سلطات الدولة التي تتيح للقضاء والمؤسسات الرقابية ضمان محاربة الفساد والحيلولة دون ابتلاع الدولة والتغطية على جرائم ومخالفات رؤسائها ومؤسساتها، ومنها حرية الوصول الى المعلومة التي تضمن مراقبة الرأي العام لسير مؤسسات الدولة ورموزها، ومنها أيضاً صيانة حرمة الموقع العام وعدم تدنيسه بالخطايا الشخصية، ومنها أيضاً احترام الساسة ورجال الدولة للشعب باعتباره مصدر الشرعية وللرأي العام باعتباره ضمير الدولة،.. هذه وغيرها من المبادىء هي التي تصون الدولة ومؤسساتها في ظل النظام الديمقراطي المدني، لذا نرى الفضيحة -في العالم الحر وأياً كان نوعها- لن تمر دون إقالة أو استقالة أو تجريم أو اعتذار،.. إنها هيبة دولة وسلامة مؤسسة وقدسية قانون لن يسمح أن تدنس في عرف الدول الديمقراطية الحقة، فليست الدولة ملكاً شخصياً ومرتعاً حزبياً وضيعة نخبوية يفعل بها ما يشاء الحاكم والمسؤول والحزب والنخبة.. الدولة مؤسسة إرادة ومصالح عامة والمسؤول فيها مجرد موظف مؤتمن يعمل بأجر وفق أنظمة وقوانين الدولة، ومتى ما أخل المسؤول بالقانون وعرّض الوظيفة للإنتهاك فلا حصانة له تحول دون التجريم والعقوبة،.. كلنا يتذكر فضيحة (ووترغيت) التي كشفت عنها صحيفة الواشنطن بوست، فضيحة التجسس على الحزب الديمقراطي الأميركي وتسجيل 67 مكالمة هاتفية استفاد منها الحزب الجمهوري في معركته الإنتخابية، إنها فضيحة تجسس سياسي أطاحت بالرئيس الأميركي الجمهوري ريتشارد نيكسون في عام 1974م، فضيحة أسقطت رئيساً كان أبطالها الصحافة ومؤسسات الدولة ذات المصداقية،.. نعم، لن تمر خطيئة -إن كشفت- في ظل النظام الديمقراطي المؤسسي الراسخ.
الفضيحة في الأنظمة المستبدة
ليس في عرف الأنظمة المستبدة أية فضيحة، فكل شىء سام وراق ونموذجي،.. فالحاكم الأب، القائد الضرورة، الرمز الأوحد.. أعلى من الشبهات وأقدس من التدنيس!! لأنه هو الدولة والدولة هو على حد تعبير ملك فرنسا لويس الرابع عشر.
في الأنظمة المستبدة لا خطايا تستوجب فضائح وتستلزم الإقصاء، فوصول الحاكم للسلطة عن طريق الدم والمؤامرة والإنقلاب ليس بخطيئة، وابتلاعه للدولة التي تتمظهر باسمه وتتجسد بأهوائه وتتلون برغباته ليس بخطيئة، وأشكال الظلم والفساد والتمييز والمغامرات ليست بخطايا تستوجب الفضيحة وتستلزم المحاسبة وتتطلب الإدانة والعزل!! والسبب يكمن في طبيعة الدولة ذاتها، فالدولة التي تحكمها الأبوات والثيوقراطيات والشموليات تقوم وتتقوم على أفكار النقاء الآيديولوجي والزيف الثوري والهيمنة الأبوية التي تحتكر السلطة وتبتلع الدولة فتكون هي الحقيقة والقانون والمؤسسة، تكون هي الدولة والدولة هي في تمازج وتماه لا يعرف الفصل،.. عندها مَن ينتقد ومَن يفضح ومَن يحاسب ومَن يعزل، والدولة كتلة صلدة متراصة تمثل ذات الحاكم وكيانه ووجوده؟!!
الفضيحة في الأنظمة التوافقية
لا قيمة حقيقية للفضيحة في ظل الأنظمة السياسية التوافقية العرقطائفية الحزبية التي تتحاصص الدولة، فغالباً ما يتم التعمية على الفضائح وتمييعها دون استحقاق إدانة أو محاسبة أو عزل لأنَّ الحياة السياسية التوافقية تقوم وتتقوم على مبادىء المحاصصة والصفقات والإبتزاز المتبادل، وإذا ما فرضت فضيحة ما نفسها على المشهد بقوة فغالباً ما تطال المستويات الوظيفية الأدنى لتذهب قرباناً للرؤوس الكبيرة التي تبقى دوماً فوق مستوى الشبهات.
لأنَّ الحياة السياسية التوافقية العرقطائفية الحزبية تقوم على مبدأ الصفقات الضامنة لشراكة المكونات وممثليها، فإنَّ أنظمة الدولة ومؤسساتها ستنقسم بفعل التقاسم العرقطائفي الحزبي، والتقاسم المترجم بالمحاصصة سيقود لا محالة الى ابتلاع الدولة حزبياً ونخبوياً، وهو ما يخلق الإقطاعيات السياسية التي تستأثر بحصتها بالدولة على وفق رؤيتها ومصالحها الخاصة، وهو ما ينتج الفساد، لكن لا ضريبة حقيقية يدفعها المفسد والمبتلع للدولة ولا فضائح تطيح بالمعادلة، والسبب يكمن في نظام توازن المصالح المحكوم بالمنفعة المتبادلة والإبتزاز المتبادل الذي يخلقه النظام التوافقي الذي هو في عمقه نظام مصالح فئوي تستفيد منه القوى المبتلعة للدولة القادمة الى السلطة عن طريق التوافقات والصفقات العرقطائفية الحزبية.
الغريب في الأنظمة التوافقية العرقطائفية الحزبية أنك تسمع ضجيجاً لا يهدأ عن العدالة والنزاهة، فالجميع وطني ونزيه ويعمل للصالح العام، مع أنَّ الجميع يعترف بتفشي اللاعدالة والفساد، ولكن لا حلول تذكر! والأغرب أنَّ أحزاب الدولة تتقاذف تهم الخيانة والفساد فيما بينها، لكن لا تغيير لحال الدولة، ولا فضائح تقيل مسؤولاً أو تنال من موقع رمز!! والسبب كل السبب في نظام توازن المصالح الذي ينتج توازن المنفعة والإبتزاز المتبادل الذي يخلقه النظام التوافقي العرقطائفي الحزبي الذي يعتبر بامتياز جنة للمفسدين.
التاريخ
سيسقط التاريخ بتريوس، لكنه سيرفع شأن إنموذج الدولة التي أسقطته، إنموذج الدولة الديمقراطية المدنية المؤسسية المحترمة لذاتها ولجمهورها من أن تدنس بخطايا أرباب الدولة، فالدولة مؤسسة طهورية لا تحتمل الفساد والإفساد، ومتى ما سمحت بتمرير الفساد وتجذر الإفساد فستسقط من داخلها، ستسقط بسقوط عدالتها وانهيار نزاهتها وانتهاك حرمتها،.. عندها تكون مسمى دولة يفترسها الأقوى ويتسيد بها الأفسد.
[email protected]