إن الاطلاع الحقيقي المثمر على فصول ومضامين السيرة العطرة لأئمة أهل البيت “عليهم السلام” وتراثهم المعطاء وإحياء أمرهم ، تكمن في أن نستوحي منهم الحقيقة الساطعة للإسلام ، والقيم المثلى التي جاء بها ، والمبادئ الإنسانية التي دعا إليها ، لأنهم الترجمان الحقيقي والنموذج الأمثل لحمل وتجسيد تعاليم السماء والثوابت الإنسانية ، ومن ثم نُترجم ما استوحيناه منهم إلى سلوك ونهج وعمل كي نكون زينا لهم لاشينا عليهم .
الأمام الكاظم الذي نعيش ذكرى استشهاده احد نماذج المدرسة الرسالية التي تغذت من وحي السماء ، ورضعت من رحيق النبوة ، أعطى خلال مسيرته دروسا بليغة تعكس النهج القرآني في نشر ثقافة الإسلام النقية والتعبير عن رؤيتها للحياة والإنسان والوجود .
إن من يدخل إلى الدوحة الرسالية لهذا الأمام لا يخرج منها إلا وهو قد ازداد يقينا وتنورا ، واتسع أفق محتواه الروحي والفكري والأخلاقي ، فالأمام رغم صعوبة المرحلة التي عاشها والتحولات السياسية والحصار والتضييق الذي مُورس عليه إلا انه لم يترك دوره ومسؤوليته في القيادة والإدارة والتوجيه والإرشاد والدفاع عن المظلومين فكان حاضرا حضورا قياديا تربويا ثوريا يرسم مشهدا حسينا بكل ما تضمنته لوحة الحسين من معاني وقيم ومبادئ.
لم يتمكن السجن وظلمته وعذابه ، ولا قيوده وسلاسله ووحشته ، من ثني عزيمة الأمام وإيقاف مسيرته ، أو إرغامه على التنازل عن ثوابته أو مهادنة ومجاملة السلطة الظالمة ، أو سلوك منهج التبرير والتمرير الذي تسكر في أفيونه قيادات التميع والركون .
في قعر السجن المظلم كان الأمام يدير الأمور ضمن إستراتيجية خطط لها من حسن تدبيره وحذاقة فكره ورؤيته …، من الطامورات يعطينا دروسا في ثقافة إدارة الأزمات وحل المشكلات ، وتحويلها إلى رماح تطعن نحور من يؤججها ، حتى العبادة الإستغراقية التي كان يمارسها في زنزانات السجون لم تكن مجرد حركات سطحية يغلب عليها الهدوء والصمت القاتل للمسؤولية ، ولم تكن فارغة عن محتواها الروحي المحرك والمؤثر ، ولاهي تلك العبادة التي تمنع صاحبها من اقتحام الواقع بما تحتويه من غذاء روحي وإرهاصات رسالية تحرك صاحبها نحو العمل والإبداع والعطاء والتضحية ، إنها عبادة تُجسد الحضور الرسالي والدور الإصلاحي والموقف الرافض لكل أنواع الظلم والاستكبار والركون والخنوع .
إن من يقف على السيرة الوضاءة لهذا الأمام الهمام يجد نفسه واقفاً على ساحل بحر من العلم والفكر والأخلاق والمواقف …، ونحن في هذه العجالة سنأخذ قطرة من هذا البحر ونضعها تحت مجهر الحقيقة لنكتشف ما تحتويه من درر المواعظ والدروس والحِكَم ، إنها قصة تعكس سمو الأخلاق ، وملكوتية الروح ، ورسالية الموقف ، وكاظمية الغيظ ، وسعة الصدر ، وإنسانية الكاظم …كيف لا وهو حفيد نبي الإنسانية ،
درس يعلمنا كيفية التعامل مع الغير وان كان معاديا ….، فقد روي انه :
“كان رجل بالمدينة يؤذي الإمام أبا الحسن موسى عليه السلام ويسبه إذا رآه ويشتم عليا عليه السلام، فقال له بعض جلسائه يوما –أي جلساء الإمام عليه السلام-دعنا نقتل هذا ، فنهاهم عن ذلك أشد النهي وزجرهم أشد الزجر، وسأل عنه، فذكر أنه يزرع بناحية من نواحي المدينة، فركب فوجده في مزرعة ، فدخل عليه السلام المزرعة بحماره ، فصاح الرجل، لا توطئ زرعنا، فتوطأه أبوالحسن عليه السلام بالحمار حتى وصل إليه، فنزل وجلس عنده وباسطه وضاحكه وقال له: كم عزمت في زرعك هذا؟ فقال له: مائة دينار، قال عليه السلام: وكم ترجوأن تصيب فيه؟ قال: أرجو مائتي دينار…فاخرج له أبوالحسن عليه السلام صرة فيها ثلاث مائة دينار، وقال: هذا زرعك على حاله والله يرزقك فيه ما ترجو…
فقام الرجل فقبل رأسه وسأله أن يصفح عن فارطه، فتبسم إليه أبوالحسن عليه السلام وانصرف…
وراح الإمام عليه السلام إلى المسجد، فوجد الرجل جالسا فلما نظر إليه، قال : الله أعلم حيث يجعل رسالاته، فوثب أصحابه إليه فقالوا: ما قضتك؟ قد كنت تقول غير هذا، فقال لهم : قد سمعتم ما قلت الآن، وجعل يدعولأبي الحسن عليه السلام، فخاصموه وخاصمهم، فلما رجع أبوالحسن عليه السلام إلى داره قال لجلسائه الذين سألوه في قتل الرجل (أيما كان خيرا، ما أردتم أوما أردت؟) إنني أصلحت أمره بالمقدار الذي عرفتم وكفيت به شره”
هذه القصىة هي رسالة كاظمية للجميع في كيفية التعامل مع الآخرين تعاملا إسلاميا إنسانيا منتجا ، ينطلق من روح المحبة والمودة ويتعالى على غريزة الثأر والانتقام ويترفع عن حضيض البغضاء والعداء والسباب والاستكبار وسلب الحقوق ،
إن المنهج الإلهي الذي سار عليه الأمام الكاظم عليه السلام لا يروق لحكام الجور والفساد فلذلك تعرض الى العداء والنصب والبغضاء والضييق والسجن وأخيرا القتل …كما شار إلى ذلك السيد الصرخي الحسني في كتاب “نزيل السجون” حيث قال :
((لم يكن سياسيا… بالسياسة الدنيوية
ولم يكن قائدا عسكريا كقادة الجهاز الحاكم الظالم
ولم يكن مسؤولا أو زعيما لجناح مسلح … كعصابات السلب والنهب وسفك الدماء والإرهاب
ولم يكن منتهزا وصوليا عابدا للمناصب والواجهات…كالمنتفعين الوصوليين العملاء الأذلاء في كل زمان
بالتأكيد فانه لا يمثل جهة وحزبا معارضا… كالأحزاب المتصارعة على الدنيا والمنافع الشخصية الخاصة.
كان إماما تقيا نقيا زاهدا عابدا ناسكا مخلصا عالما عاملا امرا بالمعروف ناهيا عن المنكر ،كان أمانا حجة شافعا رحمة للعالمين.
إذن…لماذا هذا العداء والنصب والبغضاء
ولماذا التجسس والمراقبة والتضييق والمداهمة فالترويع والاعتقال فالحبس والسجن والطامورات مع أنواع العذاب ثم السم والقتل والشهادة…؟
نعم الحق معه والإمام الكاظم(عليه السلام)مع الحق وله انعقدت الولاية والسلطة التكوينية والتشريعية فهو الإمام والأمان والحجة والبرهان…))