27 ديسمبر، 2024 6:48 ص

ماياكوفسكي وبوشكين

ماياكوفسكي وبوشكين

لم يعترف ماياكوفسكي بالاسماء الكبرى في تاريخ الادب الروسي في بداية طريقه الادبي , مثل بقية الادباء الذين كانوا ينتمون الى تيّار أدبي وفني برز في بداية القرن العشرين بروسيا وهو – ( الفوتوريزم ), اي ( المستقبلية ) , ولا مجال هنا طبعا للحديث عن هذا التيّار ومكانته في مسيرة الادب والفن في روسيا . كان ماياكوفسكي متحمسا جدا لتلك الآراء , ومتطرفا كالعادة في مواقفه الحادة , ولهذا فقد رفض حتى بوشكين , انطلاقا من ضرورة التخلص من الماضي, والارتباط مع الحاضر فقط , والانطلاق منه نحو المستقبل. لقد دعى ماياكوفسكي في تلك الفترة المبكرة من مسيرته الابداعية الى (…اسقاط بوشكين من منصة العصر الحديث وخلعه والاطاحة به..) , وهذه الكلمات موثّقة ومنشورة في المصادر الروسية عن ماياكوفسكي وعن تيّار المستقبلية وأنصارها عموما . وأذكر ان أحد أصدقائي من الطلبة الروس , الذي كان يدرس معي في جامعة موسكو في الستينيا ت , والذي كان معجبا جدا بماياكوفسكي , قال لنا مرة , انه قرأ حول تلك الفترة من مسيرة ماياكوفسكي ما معناه , ان ماياكوفسكي كان يرغب ان يقود بوشكين الى جدار ويوقفه عند ذلك الجدار ويعدمه رميا بالرصاص , ولازلت أتذكر الاشمئزاز والامتعاض والاستهجان الذي ساد عند جميع الطلبة من الذين كانوا يستمعون الى ذلك الحديث آنذاك , وقد علّق أحد المستمعين عندها قائلا – طبعا اراد ماياكوفسكي ان يعدم بوشكين لانه كان يرغب ان يخلق اوزانا موسيقيّة جديدة ومبتكرة من قبله في مسيرة الشعر الروسي , ولكن بوشكين العظيم كان له بالمرصاد , ولم يسمح له بتاتا بذلك , رغم ان بوشكين عاش ومات قبل ماياكوفسكي بقرن كامل من الزمن . وفي تاريخ الادب الروسي توجد حادثة طريفة ( سبق لي ان تحدثت عنها تفصيلا في احدى مقالاتي القديمة ببغداد السبعينات حول ماياكوفسكي ) , واعيد ملخّصها الان , وهي ان لينين حضر في احدى مؤتمرات الشباب السوفيتي مرة , وسألهم – ( هل تقرأون شعر بوشكين؟) , فأجابوه – كلا , نحن لا نقرأ شعر البرجوازي بوشكين , وانما نقرأ شعر البروليتاري ماياكوفسكي , فاجابهم لينين مبتسما بجملته الشهيرة والواضحة وضوح الشمس كما يقول تعبيرنا العربي الجميل , اذ قال – لكن شعر بوشكين أفضل .
موقف ماياكوفسكي من بوشكين بدأ بالتغيّر تدريجيا , اذ انه صرّح برغبته ( الاطاحة !) ببوشكين في عام 1912 ( ولد ماياكوفسكي العام 1893 ) , ومن الواضح تماما , ان مثل هذه (الاقوال!) يطلقها عادة الشباب الغض المتطرف في كل زمان ومكان ( قالها عن بوشكين ايضا بازاروف – بطل رواية تورغينيف الآباء والبنون ) . ان الآراء الفكرية و المواقف المرتبطة بها, مثل كل البشر, تنضج وتتطور وتتغيّر بمرور الايام والشهور والاعوام , وهذا ماحدث طبعا مع ماياكوفسكي , الذي كتب العام 1924 , اي بعد 12 سنة من أقواله المتطرفة تلك , كتب قصيدة طويلة جدا وجميلة ومكتوبة طبعا باسلوب ماياكوفسكي و بعنوان – ( اليوبيلية ) , وهي مكرسّة للذكرى ( 125 ) لميلاد بوشكين , وتوجد اشارة في المصادر الروسية الى ان ماياكوفسكي كتب هذه القصيدة وكان الشاعر ماندلشتام يقرأ له رواية بوشكين الشعرية – ( يفغيني اونيغين ) , رغم ان ماياكوفسكي – كما تشير تلك المصادر نفسها – كان يعرفها عن ظهر قلب تقريبا.
لم يصل ماياكوفسكي طبعا الى قصيدته عن بوشكين تلك رأسا , اذ ان آراء المستقبليين وغيرهم من الشباب المتطرف حول ( الاطاحة!) بالتراث الادبي الروسي ( بما فيهم تولستوي ودستويفسكي ايضا ) اصطدمت واقعيا بموقف الناس الطبيعي والسليم دائما من ذلك التراث العظيم , بل ان موقف لوناتشارسكي , وزير التعليم والثقافة السوفيتي الاول ( انظر مقالتنا بعنوان – لوناتشارسكي الفيلسوف والاديب والوزير) من ذلك التراث كان مضادا كليا لتلك الآراء المتطرفة تجاه رفض التراث , وقد بدأ موقف ماياكوفسكي من بوشكين يتغيّر , اذ أعلن انه ضد تحويل بوشكين الى تمثال , اي الى مفهوم ( الصنم!) ان صح التعبير , وانما هو ( اي ماياكوفسكي) مع التفاعل الحيوي والحياتي بشعر بوشكين , وقد كتب ماياكوفسكي في قصيدته الجميلة تلك كل ما اراد ان يقوله عن بوشكين –
أنا الوحيد / الذي يأسف / لانك لست حيّا / ……. احبك / لكن حيّا / وليس مومياء …….