لو أن أحد المحاضرين، في محاضرة عامة، ووسط حضور كبير، أفتتح محاضرته بكلمة أن الله ليس بموجود، لهب في وجهه عشرات الحضور، هبة رجل واحد، من دون أن يمهلوه حتى يجر انفاسه ويكمل جملته التي افتتحها بهذه الجملة التي نفت وجود خالق اسمه الله. هذا هو ضيق الافق، والتدين الاعمى، المتسرع الذي يطلق الاحكام على الناس جزافا من دون روية وتمحيص، ولا حتى اعطاء القائل هنيهة من الوقت.
سورين كيركغارد أطلق عبارته هذه على مسامع الملأ من الناس، بل وسجلها في كتبه، واصبح الناس تقرأها بكرة واصيلا. كيركغارد رفض عبارة “أن الله موجود” وقال لا يجوز أن نقول الله موجود، لأن عبارة موجود هي فقط تنطبق على الانسان لا على الله، بل الصحيح أن نقول أن الله كائن، اذ أن الله متى لم يكن غير موجود حتى نقول عنه أنه موجود. وجود الله ينبغي أن يدرك وجوديا، ومن المستحيل إثبات هذا الوجود بأية براهين تنتمي إلى ميدان الماهيات؛ فهو يفصل بكل قوة بين الايمان والعقل. لذلك فقد اعبر بعض الكتاب أن كيركغارد كان يبغض العقل بغضا شديدا، ليس باعتبار العقل عقلا، بل أن العقل لا يمكن أن يتوصل الى اثبات الله. وكيركغارد لا يلجأ مطلقًا إلى البراهين العقلية على وجود الله، فهذه البراهين تدل في نظره على نوع من الشك والارتياب، فهو ها هنا مثل بسكال و اوغسطين وتوما التكويني وجاكوب بوهمه، فهو يؤمن بالكشف كأساس للاعتقاد في وجود الله، وهذه صفة من صفاة المتصوفة.
فهو احب الله حبًا مختلفًا، وفهم أن الذي يحب يجب أن يضحي من اجل من يحب، والا كيف نثبت أننا فعلا احببنا وذبنا هياما بمعشوقنا؟، في التضحية مثلا؟، إذن هي التضحية، ولابد من التضحية لكي تكون هي الشاهد وبغيرها ستكون محبتنا ناقصة، محبة مجرد ادعاء ندعيه. اليس ابراهيم حين أحب الله، والله طلب منه دليلا على محبته، اوحى له أن يذبح ولده اكراما له، ودليلا ساطعا على ما يقول. ابراهيم بالفعل اتل ابنه للجبين ووضع السكين نحر ولده، ولما تأكد الله من ابراهيم أنه لا يخالف طلب حبيبه أمره أن يعدل عن فعل الذبح. وكيركغارد اراد أيضا أن يقدم شيئا يضحي به لحبيبه، فكان لا يمتلك غير خطيبته، التي مضى على خطبته لها سنة كاملة وهي لم تزعل بانتظاره، لكنها تراه شارد الذهن مشوه الفكر، وكم من مرة طلبت منه أن يصارحها بما يشكو منه، لعلها تساعده بشيء تستطيع أن تقدمه له، لكنه كان يقابلها بالصمت واللامبالاة، ليس أنه كان يبغضها بل كان يحبها، ويكن لها المودة والعرفان، بوقوفها معه في محنته التي يمر بها. (كانت ريجينا في السادسة عشر عندما خطبها کیرکغارد الذي يكبرها بعشر سنوات). وظل يراجع نفسه مرات وكرات، حتى قرر أخيرا أن يفسخ الخطوبة ويتركها تقرر مصيرها بنفسها. وهكذا ضحى بخطيبته كما ضحى ابراهيم بولده وكاد أن يذبحه. وقال عنها مقولته ” هي اختارت الحياة وأنا اخترت الالم”.
شعور كيركغارد بالذنب هو الذي اورده هذا المورد، وراد أن يزيح شبه ذلك الذنب عن كاهله، حتى وأن كان الذنب هو ليس ذنبه، انما الذنب الذي اذنبه والده، رغم أن والده هو الذي علمه التدين. والده كان قد شتم الله فعاقبه الله بأن امات اولاده جميعا، واحدا تلو الآخر، ثم لحقت بهم زوجته؛ فما كان من والده الا أن يتزوج الخادمة وهو بعمر ستة وخمسين سنة، فكان يقول عن نفسه أنه ولد شيخا.
ولد الفيلسوف الدانماركي، كيركغارد، في كوبنهاجن عاصمة الدانمارك، (۱۸۱۳م) وهو الطفل السابع في أسرة بورجوازية ميسورة الحال. كتب على الأسرة أن تحمل على كاهلها خطيئة، وأن يسلط عليها عقاب من الله! ولقد كتب عليها أن تزول، أن تمحوها يد الله القوية. هكذا كان يفكر كيركغارد.
عاش طفولة فريدة من نوعها، اذ لم يعرف هذه المرحلة من عمره وعدّ منذ البداية شيخاً كبيراً، وكانت هذه الطفولة المسنة سبباً للكآبة العميقة التي خيمت على حياته منذ مولده حتى وفاته، تأثر بالتربية الدينية المتزمتة التي تلقاها من أبيه، والتي اتسمت بالتقوى والخوف من الله وبالريبية إزاء العالم، فحياته تضمنت مجاهدة دائبة ليجد حقيقة نفسه ووجوده وشخصيته، وعلى الرغم من أنه توفى وهو في الثانية والأربعين إلا أن إنتاجه الضخم، والموضوعات التي تطرق إليها، تجعله من صفوة المفكرين والقلة الذين عاشوا فكرهم.
اشتد بغضه للكهنة، اعتبرهم أنه بعيدين كل البعد عن الله، وراح يحاربهم من خلال نشر المقالات التي تدينهم و أوصفتهم بأنهم قد ابتعدوا عن الدين المسيحي الحق، وقال عنهم أنهم خالفوا تعاليم الكتاب المقدس ورموه وراء ظهورهم. فدين الكنيسة ورجالاتها آنذاك هم ليسوا على التدين المسيحي. وما اشبه اليوم بعصر كيركغارد وما يمر به كثير من معممي المسلمين الذين ابتعدوا عن نهج القرآن ونهج النبي معا، حيث لازال البعض منهم يروج للخرافات ويستغل الناس بالدين. كأنهم لا يدركون أن الدين معناه: عقد علاقة وطيدة مع الله، والبعض كذلك جعل نفسه الناطق الرسمي باسم الاله.
وقد اعتبر الكهنة طغاة، وأن من يقف ازائهم ثم يقتل على يديهم فهو شهيد، شهيد لقوله الحق وعدم سكوته امام جبروتهم؛ لذلك كان يقول: “الطاغية يموت وحكمه ينتهي، يموت الشهيد، وتبدأ فترة حكمه”. ورغم كون كيركغارد مسيحيا شديد الإخلاص، ولكنه كان ثائرًا في الوقت نفسه ثورة روحية عارمة ترفض الجمود، وتتمرد على التقاليد، فكان من الطبيعي أن تؤدي به آراؤه إلى التصادم مع الكنيسة الرسمية بوصفها مؤسسة جامدة، كما كان يعبّر.
هذا، وتركزت فلسفة كيركغارد على الانسان باعتباره فرد، ودعا الى تحريره من ربق عبوديته من الافكار المتطرفة، والخصوص الافكار الدينية المغلوطة، وهذا المبدأ الذي انعكس على حياته من خلال والده الذي كان شديد التدين، حتى وصل به الى العنف في تدينه. واعتبر كيركغارد أن اهم ما في الانسان هو وجوده، وأن وجوده سابق لماهيته، فعبارة “وجود” هو اول من اطلقها، وصارت فيما بعد تعرف باسمه، وهو بهذا اصبح ابا الوجودية؛ هذه الفلسفة التي سار على نهجها كبار الفلاسفة المحدثين، امثال مارتن هايدجر وكارل ياسبرز وجان بول سارتر والبير كامو. وبصورة عامة تمحورت القضايا التي طرحها كيركغارد بالتفكير الفلسفي بموضوعية، كالحب، الإيمان، المفارقة، الضمير، القلق، اليأس، الموت، وغير ذلك مما يعتمل في أعماق النفس البشرية. والحياة عنده تجري في ثلاث اتجاهات أو مدارج هي: المدرج الجمالي، والمدرج الأخلاقي، والمدرج الديني، ولعل الاخير هو ما ركز عليه كيركغارد اكثر من سواه. تردده في المدرج الأخلاقي بإحجامه عن الزواج الذي يعد استقرارًا في حياة الواجب والالتزامات الاجتماعية، هذه المراحل لا يمكن أن توضع في قوالب عقلية أو تفرض بطريقة منطقية. وما اشبه هذا المنطق التي نطق به الفيلسوف الكبير ايمانويل كانت.
ومؤلفات كيركغارد كلها حوار مع النفس، أو مونولوج داخلي طويل، والتوتر هو السمة الأساسية الأولى في فكره وحياته على السواء، وهي سمة يصطبغ بها موقفه من الله. اذ اكتشف أن التعمق في فهم الخطيئة يقودنا إلى الله، وإلى الصفح والمغفرة؛ وهذه الاخيرة هي التي يجب أن ينشدها الفرد، وهي ادوات بل طرق تقوده للراحة النفسية. وهو بهذا كأنه يناغم ابن عربي المعروف بالشيخ الاكبر، أي شيخ متصوفة المسلمين.
وبعد صراعه المرير مع الحياة ومع الكنيسة معا، انهارت قواه ولم يعد يتحمل هذه المحن والخطوب، فبينما هو يسير في أحد شوارع كوبنهاغن سقط مغشيا عليه فنُقل الى المشفى، فمات من ساعته، وذلك في الحادي عشر من تشرين الثاني عام 1855. لكنه ترك ارثا فكريا ثراً هو لليوم منهل السالكين طرق المعرفة.