الليبرالية تعني شيئا مختلفا لكل منا. وهذه اول حقيقة علينا الاعتراف بها كمدخل لفهم واستيعاب المصطلح الذي يشغل تفكير كل منا ايضا. هي الالحاد نفسه عند البعض, وهي العلمانية بسلبياتها وايجابياتها عند البعض الاخر, وهي التحلل من كل القيم والاخلاقيات عند بعضهم, في حين انها أرقى وأشمل القيم عند اخرين. وهي الحرية المنفلتة ومحاكاة الغرب المتحلل عند قسم بينما يراها اخرون بانها روح الرسالة الاسلامية المحمدية وجوهر كل الديانات. وهي بالفعل قد تشمل كل او بعض ذلك.
بالواقع لاتجد تعريفا لليبرالية باية لغة او قاموس الا وأضيف اليه انها تعني اشياء مختلفة لأناس مختلفين. ويتفق جميع من كتب عن الليبرالية حياديا على انها نظام وممارسة وفكر يختلف من مكان لاخر, بل ومن زمان لاخر.
ماهو المقابل العربي لكلمة ليبرالية؟ لغويا وكقاموسجي لاشك ان المرادف العربي المباشر لها هو حرية, ولكن هذه الكلمة مع جماليتها وسهولة فهمنا لها ستغمط المصطلح معناه الحقيقي والمقصود. خير ترجمة لها هي في نقلها المباشر transliteration الى كلمة ليبرالية.
ولاشك ان الليبرالية مصطلح جذاب وله مقبولية عالمية ومحلية حتى عند عتاة مناهضيها او مسيئي فهمها او راكبي موجتها. فكل الشيوعيين السابقين واللاحقين في العالم يعتبرون انفسهم ليبراليين. وكل البعثيين كذلك. وكل من استخدم عقله يوما للاعتراض على حديث في صحيح البخاري او بحار الانوار صار يسمي نفسه ليبراليا, او يسميه رفاقه ممن يقدس تلك الكتب من الجلاد الى الجلاد بهذا الاسم استهجانا له. بينما جميعهم لاعلاقة له بالليبرالية التي اعرفها, وان كنت لاأمانع ذلك فلا أحد يحتكرها. ولا استبعد يوما ان يقال لداعش ذبح الرؤوس انهم ليبراليون مقارنة بداعش الحرق.
الليبرالية هي تقديس الانسان الفرد مهما كان واعطائه الاولوية على مجتمعه. ولا اجد اي تعريف اخر لها اكثر دقة من ذلك. ومادام الانسان الفرد هو المقدس فلاقيمة لاية فكرة او او دين او نظرية مقابله. فهو المعبود وكل ما عدى ذلك هي وسائل لاسعاده وترفيهه. وبالتالي تصبح حريته وارادته وحقه بالاختلاف والتفرد مقدسات ايضا, ولو على حساب راي الاغلبية او مصلحة المجتمع او الذوق العام او المصلحة العليا, وغير ذلك مما يقال لتحجيم وسجن الفرد تحت كل المسميات الشمولية الكابتة للحرية الفعلية الفردية سواء شيوعيا او بعثيا او اسلاميا او غيرها من الانظمة التي تمجد فكرة خيالية على حساب الانسان. هذه هي الليبرالية الحقيقية, وعلى ضوئها يمكن تمييز السلوك الليبرالي عن غيره.
والليبرالية هي جوهر الحضارة الغربية التي نعرفها الان ونغار منها لانها سبقتنا بشكل واضح واستعمرتنا فترة والتي قامت على الحرية والتسامح والمساواة والمواطنة فاولدت نهضة وتنمية وملكيات خاصة ومدنية وبلدان الرفاه والضمان الاجتماعي. ربما لهذا نجد معظم ليبراليينا في الشرق هم من المدرسة الكلاسيكية التي قادت تلك النهضة الغربية قبل 300 سنة واكثر ولايقابلهم الان في الغرب الا المحافظين الحاليين وليس الليبراليين الاجتماعيين الحداثويين الذين يتمادون احيانا في مذاهبهم واشتراكيتهم لاختلاف عمر التجربة بيننا.
ولاشك ايضا انه يصعب تقديم الليبرالية حتى بمعناها البسيط المنفتح الانساني الى شعوب استكانت للعبودية والخرافة والماورائية ومعادية للفردانية في السلوك والاعتقاد. لكنها اجلا او عاجلا ستنتشر وتتعمق وتسود كما سادت في معظم شعوب العالم المتقدم بعد تغلبها على الكنيسة وملوك الحكم المطلق والرجعيات وانتصرت في الحربين العالميتين وفي كل صراع مع الشوفينية والشمولية في التاريخ الحديث.
التعريف القديم المتداول للحرية يصفها بانها تقف عند حدود حرية الاخرين. اي تضع سقفا للحرية وتحد حريتك بما لايتجاوز الحرية التي يفترضها الاخرون لانفسهم. اي عليك ان تفكر بحرية الاخرين قبل ان تفكر بحريتك, حتى لاتتجاوز الحدود الخاصة بالاخرين. فاين حريتك اذن؟حريتك في الليبرالية الحقيقية لاحدود لها ومن المؤكد انها ستتداخل مع حريات الاخرين. ومن العبث او غير الليبرالية ان نفترض العكس. فما قيمة حرية تقف عند حدود حرية الاخرين؟ وعادة يقصدون بها المجتمع! فالليبرالية هي تعظيم للحقوق وتحجيم للواجبات.
ان قيمة المجتمع هي من قيمة افراده وليس العكس. وفقط باعطاء الاولوية للفرد وحقه بالتميز وبضمان المساواة على اساس المواطنة والديمقراطية ونبذ الشمولية بقوانين مدنية بسيطة يمكن ان نطور المجتمع ونوحده وننشطه ليرتقي الجميع فنلحق بالركب العالمي الذي سبقنا. هي وصفة علاجية ثبت نجاحها وفعاليتها في عشرات الدول غيرنا, ولم يثبت بعد نجاح اي وصفة اخرى غيرها. والديمقراطية وحدها بدون ليبرالية هي تسلط جائر وتكريس لسيادة المجتمع على الفرد.