19 ديسمبر، 2024 12:15 ص

ماهي الحكاية التي ظلت غائبة في حياة ناظم السعود؟  

ماهي الحكاية التي ظلت غائبة في حياة ناظم السعود؟  

غاب عن المشهد الثقافي ، الاسبوع الماضي ، احد ابرز وجوه الصحافة الثقافية  في العراق ، بعد صراع مرير مع المرض وسط صمت حكومي ، رغم المناشدات و ( التوسلات ) لانتشال غول المرض والفاقة والتجاهل ، لكن اصوات المناشدة لم تنفع ، فغيّب الموت ” ناظم السعود” .. وبموته ودعنا صوتاً ، بحّت اوتاره من نداء العون .. رحمك الله ناظم ، لقد سبقتنا الى دنيا الخلود ، حيث الرحمة الالهية..
ان حياة ناظم السعود ، تصلح فكرة لعمل درامي ، يؤشر عصامية قلّ نظيرها .. شاب عشريني ، من طبقة معدمة ، يغادر وطنه حاملاً معه شهادته الثانوية المصدقة  وما أدخرته عائلته من مال بسيط ، متوجها الى النمسا ، حيث غنت أسمهان ( ليالي الأنس في فينا ) ملتحقا بجامعتها الشهيرة لدراسة ” الأدب الألماني ” ويكمل سنته الأولى بنجاح  ، لكنه يفشل في الحصول على معين مالي لاستكمال دراسته  ، فيعود خائباً الى بلده تملؤه الحسرة ، فالعوز المادي كان غولا لم يستطع مجاراته ، وبعد مدة من الزمن يعاود النمر الذي بداخله الصراخ ، مناديا  بمعاودة الكرّة  للدراسة خارج العراق ، وأين ، هذه المرة ؟ الى القاهرة بعد ان جمع له الأهل والخلان مبلغاً  من المال توقع ان يكون كافيا لدراسته في مصر … هدفه الأثير كان الحصول على شهادة عالية من خارج الوطن ، وفي المعهد الازهري ، بدأ اولى خطوات الدراسة ، وما هي إلاّ أشهر حتى يخبره اهله بضرورة العودة اليهم ، فلم يبق عندهم ما يبعثون اليه من مال شحيح .. ويعود  مرغما ، لكن الأمل بإكمال دراسته الجامعية ظل يراوده ، فقرر التقديم الى جامعة عراقية ،  مبعداً عن نفسه طموحه الشخصي بالحصول على شهادة من جامعة عربية او أجنبية ، اليس الدراسة في الجامعات  العراقية ، مجانية وشهادتها محط اعجاب العالم ؟.. ويبدأ بتهيئة اوراقه وبضمنها اوليات دراسته في النمسا ومصر وشهادته الثانوية  ، وفي اثناء التقديم ، كانت الحرب العراقية ــ الايرانية قد بدأت لتوها ،  في ثمانينيات القرن المنصرم  ، ولأن عمره كان ضمن الأعمار المطلوبة للخدمة العسكرية ،   فقد سيق لأداء الخدمة الإلزامية ، وطالت الخدمة ثمان سنوات  ، ومعها توقف الزمن عنده ، وضاعت آماله في الدراسة ، وخبت طموحاته ، فشعر بالوهن النفسي وثقل المسؤولية العائلية ، فألتفت الى حبه المخبوء في دهاليز نفسه .. الأدب والصحافة التي كان مارسها لسنوات قليلة سابقة ، بخواطر ومقالات صغيرة وهوامش دللت على موهبة وذكاء ورهافة حس  تحت اسم ( أسعد العربي )  بدأها بحوار أجراه مع الدكتور علي جواد الطاهر ، نشرته مجلة ” وعي العمال” لكن النشر كان ” مبتوراً ” ومشوهاً ، وغفلت المجلة نشر اسم الصحفي الناشئ ، وكان هذا الاغفال في صالحه .!
وتتداعى  الآن صورته امامي ، حين تعرفتُ عليه اول مرة ، في موقف غريب ، فما هو ؟
في بدايات التسعينيات ، انتهى تصوير فلم ( الملك غازي ) وبانتهائه ، هيأت دائرة السينما والمسرح عرضا فخماً حضره السفراء المعتمدون في العراق ونخبة من المثقفين والمهتمين بالسينما ، كنتُ حينها مشرفاً على الصفحة الأخيرة في جريدة ” الثورة ” فطلبتُ من إحدى الزميلات في الصفحة ( … ) حضور العرض ، وكتابة مشاهدتها لأصدائه . وفي اليوم التالي جاءت  تلك الزميلة بموضوع جميل جداً ، في فحواه وطريقة كتابته وأسلوب عرضه ، وقبل ان أدفع به الى النشر ، أعتراني  فرح مهني كبير .. فأمامي صحفية كبيرة  لم أكن أنتبهتُ اليها ، وبسرعة ، ألوم نفسي عليها الآن  ، سارعتُ الى رئيس التحرير طه البصري ، رحمه الله ، وبيدي مذكرة  ، أطلب فيها توجيه كتاب شكر ومكافأة للزميلة المبدعة .. ونشرتُ الموضوع  ، لأكتشف ان كاتبه الحقيقي ليس الزميلة ( .. .) بل  هو احد مصححي الجريدة الجدد ، كانت المحررة  أصطحبته معها لمشاهدة ( الملك غازي ) فكتب لها الموضوع الذي أثار أنتباهي .. كان هذا المصحح ( ناظم السعود ) … لم أعاتبه على كتابة الموضوع  ونشره باسم غيره ، لكني  سررتُ لهذه الموهبة ذات الأسلوبية الجميلة  في الكتابة ، وهذا عندي أهم من العتاب  .. فطلبتُ منه الاستمرار في رفد الجريدة بموضوعاته ، وقد فعل ..
وبدأت رحلة ( ناظم السعود ) في الصحافة ، كاتبا في صفحات ثقافية ، ناقداً ثقافياُ متمكناُ ، فالحرف عنده كان أقوى من الرصاص الذي شهد لعلعته في الخدمة العسكرية ، والرؤية النقدية أقوى من بارود المدافع وهاونات جبهة المعارك التي شارك فيها … قلمه كان مرحباً به في الصحف والمجلات .
ودار دولاب الهواء بيّ … ومع دورانه كنتُ اتابع نشاط ” ناظم السعود ” بمحبة ، وأتتبع أخباره من الأصدقاء ، حتى صُدمت يوماُ ان ” السعود ” ضاقت به الدنيا الى الحد الذي أمتهن فيه ” الحراسة ” في احد مقرات الاتحاد العام لشباب العراق في شارع  الكفاح ببغداد ، من اجل الحصول على غرفة في المقر المذكور تؤويه وعياله مجاناً … ! يا لنكد الحظ الذي رافق ” السعود” منذ بداية مشواره الحياتي ، حتى انتهى به الامر السكن في احدى ضواحي مدينة كربلاء ، بعد ان زحف اليه الشلل ، ثم تكررت عنده ( جلطات ) قلبه الواهن ، حتى تعب … فودع الدنيا .. وأنني أسأل : كيف ارتبط به لقب “السعود” ، وهو لم يعثر يوماً على السعادة؟
وداعا ناظم .. لقد اديت ما عليك في دنيا لم تعرف الوفاء .. نم قرير العين .. فربما الموت راحة لك ..!