في لحظة ذات طابع قدري يلتقي الشاعر المتمرد مالك بن الريب مع صبي صغير أسمه رمّاح يفهم منه انه من بليخ وأن أهل الجاه والسلطان قد سلبوهم ما يملكون فتاهوا في الأرض يقتفون مسار القوافل يلتقطون ما تخلفه تلك القوافل من فتات يقتاتون عليه لسد رمقهم، وانشده الصبي أبيات من قصيدة عمرو ابن احمر الباهلي التي تعبر عن الحال الذي وصل لها هؤلاء القوم. وكانت الأبيات تعبر بكلمات ايحائية ذات طاقة تعبيرية عن الوضع المزري ، تقول الأبيات:
تُمَشّي بِأَكنافِ البَليخِ نِساؤُنا
أَرامِلَ يَستَطعِمنَ بِالكَفِّ وَالفَمِ
نَقائِذَ بِرسامٍ وَحُمّى وَحَصبَةٍ
وَجوعٍ وَطاعونٍ وَنَقرٍ وَمَغرَمِ
أَرى ناقَتي حَنَّت بِلَيلٍ وَشاقَها
غِناءٌ كَنَوحِ الأَعجَمِ المُتَوائِمِ
وفي عراق اليوم تتكرر هذه المشاهد في التقاطعات وعلى جوانب الطرق و في مواقع تجميع النفايات حيث تتواجد عوائل بكاملها بحثا عن بقايا طعام او اي شيء آخر ومن يصادفه الحظ يلتقط شيئا ذا قيمة وصل بشكل غير مقصود إلى هذه المواقع التي يتعارك فيها النباشون دون أن يلتفت لهم احد ، ذكور واناث وصبية وكبار سن انها جموع هائمة مثل الجموع التي تكدست في ساحات الاحتجاجات للمطالبة بفرصة عمل وشيئا من المساواة في بلد تقاسم الغرباء ثروته بالحق ولكل طرف منهم حق معلوم، وستجري الانتخابات التي نتمنى أن لا تكون الطلقة التي تكمل فاجعة وأد المطالب، فلا فرص عمل توفرت ولا تحسنت البطاقة التموينية ولا مشاريع كبرى لاستقطاب البطالة ومنح العراق قوة اقتصادية بل ان ما يجري هو على العكس من ذلك، فهناك تهديم منظم مدروس للشباب الذي يقضي ثلث عمره في الدراسة ثم لا يجد حتى مكانا ( لجنبر) او بسطية وحين يتسائل المرء عن سر كثرة الجامعات وقلة فرصة العمل سيقال له انها عملية كبرى لتحرير الاقتصاد ، ولكن هل يوجد اقتصاد في العراق؟
ان لعبة كسب الوقت والهروب إلى الأمام ستظل سيدة الموقف مع تبديل الوجوة وتغيير مواقعها .
ويظل الأطفال ينتظرون سيارات الازبال في مقبرة النفايات ليقيموا ولائمهم احتفالا بفتوتهم التي تفتحت زهرتها وسط القمامة وستظل نساء البليخ يعانين الطاعون الاسود والجوع والحمى ويتسولن باليد والفم في شوارع مدن العراق التي غصت بالشحاذين والنفوس الضائعة.
لقد ضاعت امال ودفنت أحلام في هذا الوطن الذي صار كل شيء فيه صعب المنال وباغلى الاثمان الا الموت فقد صار متوفرا بالمجان .
وللاسف لم يكتمل فهم الشعب لذاته، وما يجري لم يعد مفاجئا، لعله قبول بالهزيمة والرضوخ لقدر كتبة القادمون من خارج هذا الوطن. وكما قال كارل ماركس فإن الفقر لا يصنع ثورة لكن وعي الفقراء هو ما يخلق تحت الثورة ..
التغيير هو فعل إنساني تقوم الجماعة به، ولن يأتيها من خارجها… وتلك هي الحقيقة التي ينبغي إستيعابها.