عندما كنا أطفالا في الصف الثاني الابتدائي، كنا نقرأ قصة مالك الحزين عندما كان يبحث في بركة ما عن شيء يأكله، فلما لم يجد ضالته أراد أن يغادر المكان فصاحت ضفدعة: ماذا تريد يا مالك الحزين؟ فقال: أريد ان أأكلك. فطار إليها وأكلها. ويشرح لنا المعلم كيف أن الكلام في غير محله قد يتسبب في هلاك الشخص. ونقرأ أيضا عن ثلاثة ثيران كانت تعيش في غابة مع أسد، والقصة معروفة وتنتهي بقول الثور البني: إنما أكلت يوم أكل الثور الأبيض.
ويذكرنا المعلم بعد هذه القصة بأهمية التعاون وخطر الفرقة. والغريب في الأمر أن الناس يتداولون مثل هذه الحكايات ويذكرونها على المنابر وفي الكتب ولا أحد يعترض ويقول بأن هذه أكاذيب وغير واقعية ولا ينبغي قراءتها وتعليمها للأطفال، لأن الجميع لا يرونها أكاذيب بل يرونها نافعة لأنها تحقق لهم الهدف التربوي منها، أي أن معيار الصدق والكذب لا يتحدد في المطابقة للواقع وعدمه، كما في المذهب الأرسطي، بل يتعدى ذلك ليكون المعيار في القضايا التربوية والأخلاقية هو مطابقة الغرض وعدمه. فلو كانت القضية الخبرية أو القصة تتوافق مع الهدف والغاية فهي صحيحة وصادقة حتى لو لم تكن مطابقة للواقع الموضوعي في الخارج. ويمكن الزعم ان غالبية قصص القرآن وما ورد في الروايات من قصة خلق آدم وطرده من الجنة وتناوله من الشجرة الممنوعة وطرده من الجنة، والمعراج وما فيه من أفلام رعب رهيبة، وطوفان نوح وما فيه من قضايا مخالفة للعقل وظلم لسائر الأقوام والمجتمعات البشرية والحيوانات التي كانت بعيدة عن قرية نوح، وقصة أصحاب الكهف، والاسكندر، وسد يأجوج ومأجوج، وقصة سليمان وكلام النمل والهدهد ووقوفه على عصاه سنة كاملة وهو ميت، ويونس الذي ابتلعه الحوت لأنه غضب من الله الذي لم ينزل عذابه على قومه، وقصة الفيل والطير الأبابيل، وأمثال ذلك مما يحشر في خانة الأساطير النافعة، كلها تكون صادقة وصحيحة على أساس هذا المعيار الأخير، وهو معيار الانسجام مع الهدف والغاية لا المعيار الأول، وهو المطابقة للواقع، لأنه حينئذ تكون كلها كاذبة، وبذلك نخلص القرآن من التورط في الكذب ونقر بأن هذه القصص والآيات القرآنية كلها صحيحة ولا باطل فيها.
وهناك من علماء اللاهوت وفلاسفة الدين من ذهب ـ لحل مشكلة تعارض النص الديني مع العلم، أو تعارض النص الديني مع العقل – الى أن جميع القضايا الخبرية الواردة في القرآن والسنة مما يخالف العقل والعلم، هي قضايا انشائية في روحها وان وردت بصياغة الخبر. ومعلوم ان القضية الخبرية هي ما يحتمل الصدق والكذب، أما القضية الانشائية كالاستفهام والأمر والنهي فلا تحتمل الصدق والكذب لأنها ليست اخبارا عن الواقع الخارجي، بل هي انشاء للمعنى في ذهن السامع ليتحرك باتجاه معين، أي ان الانشاء هو ما يخلق الارادة في نفس السامع ولهذا لا يندرج في مقولة الصدق والكذب. وعلى هذا الأساس تكون جميع المعارف الواردة في القرآن صحيحة وان كانت كقضية خبرية ليس لها حقيقة واقعية في الخارج. والعرب يستخدمون هذه الطريقة كثيرا كقضايا البيع والشراء فيأتون بالفعل الماضي بعت، زوجت، ويقصدون منه الانشاء لا الخبر، وحينئذ لا يمكن اطلاق الصدق والكذب على هذه القضايا. فعندما يحكي لنا القرآن قصة آدم وعصيانه واخراجه من الجنة فهو لا يقصد الاخبار عن واقع موضوعي، بل يريد القول انك ايها الانسان اذا عصيت وخالفت الباري تعالى فستطرد من رحمة الله. هذا الأمر الانشائي ورد في القرآن بصياغة قصة خبرية لزيادة التأثير في نفوس العرب. وللحديث صلة.