22 ديسمبر، 2024 5:46 م

مالذي نفهمه من الابراهيمية ومالذي تدعوا اليه؟؟؟

مالذي نفهمه من الابراهيمية ومالذي تدعوا اليه؟؟؟

الإبراهيمية مصطلح غامض فضفاض ذو طابع ديني، كثُر استخدامه في السنوات الأخيرة، حيث تم توظيفه لتنفيذ رؤى واستراتيجيات الولايات المتحدة الأمريكية كأكبر دولة في عالم اليوم، في منطقة الشرق الأوسط. فقد أعلنت الإدارات الأمريكية المتعاقبة، وبصورة مستمرة أن من أهم أولويات سياستها الخارجية، المحافظة على أمن حليفتها إسرائيل وضمان تفوقها في فضائها الإقليمي. حيث جاء الحديث عن الإبراهيمية كدعوة لنبذ الخلافات بين أتباع الديانات السماوية الثلاث، والبحث عن المشتركات من أجل تجسيد قيم الإخوة والتسامح والتعايش في المنطقة، بهدف إنهاء حالة الصراع العربي -الإسرائيلي المستمرة منذ أكثر من سبعين عامًا، ومن ثم تحقيق السلام الشامل. هنا، يظهر هدف الدراسة، وهو محاولة الإجابة عن التساؤل التالي: هل مثلت الدعوة (الإبراهيمية) وصفة ناجعة لتعايش إسرائيل ككيان غريب في محيطها الإقليمي أم وسيلة جديدة للسيطرة والتحكم بدول وشعوب ومقدرات المنطقة؟

أعلن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب الخميس 13/ آب أغسطس/ 2020، عن حدوث اختراق دبلوماسي كبير، بإبرام اتفاق سلام تاريخي بين إسرائيل والإمارات العربية المتحدة – على حد وصفه- وأن هذا الاتفاق سيسمى “اتفاق ابراهام” بعد توقيعه، وأشار السفير الأمريكي لدى إسرائيل “ديفيد فريدمان”، من جانبه، إلى أن الاتفاق الإبراهيمي جاء تيمنًا بــــــ “أبي الديانات السماوية الكبرى النبي (إبراهيم عليه السلام)”، وقال: “لا يوجد شخص يرمز بشكل أفضل إلى إمكانية وحدة هذه الديانات الثلاثة العظيمة أكثر منه”].

كما ربط “ترامب” الخطوة بين إسرائيل والإمارات بـ “إعادة بناء الشرق الأوسط”، موضحًا أنه “من خلال توحيد اثنين من أقرب شركاء أمريكا وأكثرهم قدرة في المنطقة، وهو أمر قيل إنه لا يمكن القيام به، تعد هذه الصفقة خطوة مهمة نحو بناء شرق أوسط أكثر سلامًا وأمانًا وازدهارًا].

تتمحور الدراسة حول مناقشة خلفية تسمية اتفاق التطبيع بـــــــ (إبراهام، أو إبراهيم)، ودلالتها، ولماذا لم يحمل هذا الاتفاق اسم المدينة التي شهدت مراسم توقيعه، كما هو معمول به، مثل: كامب ديفيد 1979، أوسلو 1993، وادي عربة 1994؟، وتسليط الضوء على أبرز مظاهر وأهداف الدعوة الإبراهيمية.

وللإجابة عن التساؤلات السابقة ستقسم الدراسة إلى ثلاثة أقسام، على النحو التالي: (1) تأصيل مصطلح الإبراهيمية؛ (2) خلفية تسمية اتفاق التطبيع الإسرائيلي الاماراتي البحريني بــــ (إبراهيم)، ودلالتها؛ (3) مظاهر وأهداف الدعوة الإبراهيمية.

أولًا: تأصيل مصطلح الإبراهيمية

 

عندما يشار إلى الديانات الإبراهيمية فيُفهم بأن المقصود عادة هي الديانات اليهودية والمسيحية والإسلام. وهناك في الواقع المزيد من الديانات الإبراهيمية أيضًا، مثل العقيدة البهائية واليزيدية والدرزية والسامرية، لكن قلة عدد أتباع هذه العقائد، مقابل كُثر أتباع اليهودية والمسيحية والإسلام، رجح كفة الأولى. ويسلط مصطلح “إبراهيم” الضوء على الدور المهم للغاية لشخصية النبي إبراهيم عليه السلام كشخصية محورية في كل من هذه الأديان، وينظر اليهود والمسيحيون والمسلمون إلى نصوصهم المقدسة لمعرفة تاريخ النبي إبراهيم عليه السلام وكيف تم تفسيره عبر العصور].

ففي الديانة اليهودية، يرجع اليهود ديانتهم إلى عصر النبي إبراهيم وإسحق ويعقوب -عليهم الصلاة والسلام- والذي ترجع حوادثه إلى القرنين التاسع عشر والثامن عشر قبل الميلاد، وقد يطلق على هذه الفترة في الكتب اليهودية اسم عصر الآباء، وقد تشمل تسمية الآباء غيرهم من الأنبياء ممن جاؤوا بعدهم حتى تشمل النبي موسى عليه السلام. ولكن الثابت يهوديًا أن النبي إبراهيم هو المبدأ، وتبدأ فترة الآباء بظهوره كأول شخص عبراني، ويعد بعض الباحثين هجرة إبراهيم مع قومه من منطقة (أور) في العراق إلى فلسطين أنها كانت الهجرة الأولى للقبائل اليهودية].

وفي المسيحية فإن الكتاب المقدس العبري هو العهد القديم، وهو مقدمة العهد الجديد الذي يروي ولادة يسوع المسيح وخدمته وموته وقيامته إضافة إلى سيرة ووعظ أتباع يسوع الأوائل. وبالنسبة إلى الفهم المسيحي لإبراهيم، فإن رسائل القديس بولس لها أهمية خاصة، الذي قال: ” لطالما كان إبراهيم أبًا لكل من يؤمن]

أما في الإسلام فان إبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء فلم يبعث نبيًا من بعده إلا من نسله، وقد كان له ولدان اصطفاهما الله بالنبوة وهما إسماعيل جد العرب ومن نسله بعث الله النبي محمد ﷺ، أما الآخر فهو إسحاق وقد رزقه الله نبيًا اسمه يعقوب ويلقب بإسرائيل وإليه ينسب بنو إسرائيل مع أنبيائهم. وقد أشار القرآن الكريم إلى أبوة إبراهيم للأنبياء بقوله عن إبراهيم: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۚ كُلًّا هَدَيْنَا ۚ وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ ۖ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَارُونَ ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴿٨٤﴾ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَىٰ وَعِيسَىٰ وَإِلْيَاسَ ۖ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ ﴿٨٥﴾ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا ۚ وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ (الأنعام: 84- 86). كما أمر الله تعالى الرسول محمد ﷺ أن يتبع ملة إبراهيم فقال سبحانه: ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۖ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ (النحل: 123

كما ورد عن النبي محمد ﷺ قوله إذا أصبح وإذا أمسى: “أصبحنا على فطرة الإسلام، وعلى كلمة الإخلاص، وعلى دين نبينا محمد ﷺ، وعلى ملة أبينا إبراهيم حنيفًا مسلمًا، وما كان من المشركين” مما يبرهن على مكانة النبي إبراهيم عليه السلام في الديانة الإسلامية، سواء بنص آيات القرآن الكريم أو الأحاديث النبوية.

ويشار إلى مصطلح الإيمان الإبراهيمي أو الديانات الإبراهيمية بغرض تجميع القادة الدينيين والسياسيين معًا لتقريب التراث المشترك والتشابهات في علم اللاهوت من أجل تحقيق سلام ديني عالمي قائم على الضمير الجمعي. والبعض يصف مصطلح الديانة الإبراهيمية بمصطلح التراث اليهودي المسيحي، باعتبار أنه يستخدم لوصف التقاليد الأخلاقية والديانة الغربية. على اعتبار أن نحو 56 بالمئة من سكان العالم إبراهيميون].

لكن استثمار رمزية النبي إبراهيم عليه السلام لدى المعاصرين هو قد بدأ في القرن التاسع عشر، وبالتالي فإن مصطلح “الديانات الإبراهيمية” هو مفهوم حديث، حيث نقرأ منذ عام 1811 عن الميثاق الإبراهيمي (The Abrahamic Covenant) الذي يجمع بين المؤمنين في الغرب. وذلك قبل أن يتحول اسم إبراهيم إلى اصطلاح بحثي لدى المؤرخين في الخمسينيات من القرن العشرين، وكان أول من رسّخه المستشرق الفرنسي الكبير “لويس ماسينيون” في مقالة نشرها عام 1949 تحت عنوان: “الصلوات الثلاث لإبراهيم، أب كل المؤمنين”، ثم تحولت “الديانات الإبراهيمية” إلى حقل دراسات مستقلة بنفسها].

وبداية قصة الدين الإبراهيمي الجديد كانت في تسعينيات القرن العشرين، حيث قامت الإدارة الأمريكية بإنشاء “برنامج أبحاث دراسات الحرب والسلام”، وبدأت في اختبار المفهوم الإبراهيمي عام 2000، من طريق جامعة هارفارد، حيث قامت الجامعة بإرسال فريق من الباحثين الأمريكيين المتخصصين لمنطقة الشرق الأوسط بما فيها البلدان العربية كافة وتركيا وإيران وإسرائيل، محاولين اختبار فرضية وضع نبي الله إبراهيم عليه السلام كعنصر تتجمع حوله هذه الدول المختلفة، من أجل وضع دين جديد يساعد على حل الصراع العربي- الإسرائيلي من خلال هذا التجمع حول الدين الإبراهيمي الجديد. وقد توصل هؤلاء الباحثون إلى أن الثقافة الدينية والرأي العام في المنطقة سواء كان يهوديًا أو مسيحيًا أو مسلمًا يحمل مكانة كبيرة لنبي الله إبراهيم عليه السلام].

كما أنه، وبعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001، قد ثارت نقاشات جدية موسعة أكثر حول إمكان جمع شتات المنتمين إلى الأديان الكبرى الثلاثة تحت راية الديانات الإبراهيمية بحثًا عن أواصر السلام المشتركة روحيًا فيما بينهم بوصفهم ورثة إبراهيم وعليهم التعاون التأويلي على فهم ما وقع لهم أو فيما بينهم].

تشير هبة جمال الدين مدرّسة العلوم السياسية بمعهد التخطيط القومي، وعضو المجلس المصري للشؤون الخارجية، أيضًا، بأن الديانات الإبراهيمية مصطلح تم إطلاقه مطلع الألفية الثالثة ليشير إلى الأديان السماوية الثلاثة، وطرحه جاء ضمن مفهوم جديد لحل النزاعات والصراعات الممتدة والقائمة على أبعاد دينية متشابكة، وهو مفهوم “الدبلوماسية الروحية”، لتمثل خلاله الأديان الإبراهيمية أحد أبرز أركان هذا المفهوم الجديد.

وفي هذا الإطار، يرى جيمس روزينوه أن مستقبل العالم سيرتكز على السلام العالمي الذي سيتحقق عبر الديانات الإبراهيمية والعقائد المتداخلة، كمدخل جديد لحل النزاعات في العلاقات الدولية، وكطرح بديل لنظرية “هنتنغتون” حول صدام الحضارات، ونظرية “فوكوياما” حول نهاية التاريخ، بل ليعكس نهجًا جديدًا داخل علم العلاقات الدولية كانت أهم ملامحه ظهور مفاهيم جديدة، كالتسامح العالمي، والأخوة الإنسانية، والحب، والوئام، كمفاهيم جديدة مطروحة داخل هذا الحقل].

باختصار، الإبراهيمية بوتقة لصهر الأديان السماوية الثلاثة، الإسلام واليهودية والمسيحية، لينتج منها ديانة جديدة، يزعم دعاتها أن من خلالها سيعم السلام والأخوة الإنسانية والمشترك الديني، وذلك من خلال جمع نقاط الاشتراك بين الديانات الثلاث وتنحية النقاط المختلف فيها جانبًا. هذا، وبالطبع ستكون نقاط الالتقاء على الديانة اليهودية فقط، حيث إن المسلمين يعترفون بالديانات الثلاثة، بينما في الديانة المسيحية يعترفون باليهودية والمسيحية فقط، أما اليهود فلا يعترفون إلا باليهودية].

ويمكن اجمال العناصر الأساسية لمصطلح الديانات الإبراهيمية في الآتي:]

– محورية النبي إبراهيم عليه السلام باعتبار أن ذكره يحمل القبول والقدسية والتقارب، ويمثل المشترك بين الأديان.

– ممثلين عن الديانات الإبراهيمية – الثلاث – من رجال دين وساسة ودبلوماسيين، سيتحاورون للوصول إلى وضع ميثاقٍ تكون له القدسية الدينية كبديل من المقدسات السماوية، يؤسس للمشترك الديني بين هذه الأديان وينحي الخلاف.

– الاعتماد على آلية دبلوماسية المسار الثاني، المفاوضات غير الرسمية (الدبلوماسية الروحية) كساحة لعمل وتعاون رجال الدين والساسة لمناقشة القضايا الحساسة خارج الأطر الرسمية، تمهيدًا لإعلانها لاحقًا حال الاتفاق عليها، وتمهيد الساحة للإعلان عنها رسميًا.

– إن القادة الروحيين هم من الأدوات المهمة لنشر هذا المفهوم على الأرض، وجذب المريدين والمؤمنين بالفكرة، ويتم اختيارهم بناء على معايير كثيرة، أهمها تمتعهم بالتأثير الفعلي داخل مجتمعاتهم، وتمتعهم بسمعة طيبة وعدد كبير من الأتباع.

– أُسر السلام، وهي جماعات قاعدية تنتشر في كافة الدول والمجتمعات في المنطقة التي تعاني نزاعات دينية قائمة، أو نزاعات كامنة غير واضحة على الأرض، بهدف حل الصراع والتقريب بين القيادات الإبراهيمية عبر ضمانة تطبيق الميثاق الإبراهيمي المشترك.

– الحوار الخدمي، وهو أداة لجذب المريدين والمؤيدين والداعمين من المجتمعات المحلية، حيث يتم نشر الأفكار والحوار بشأنها، من خلال تقديم خدمات تنموية على الأرض تكفل التخلص من الفقر العالمي عبر خلق دخل للأسر الفقيرة لتصبح من أصدقاء السلام العالمي.

– تُعد القيادات الصوفية هي الأكثر قربًا للتعامل مع الفكرة وتقريب وجهات النظر على الأرض، حيث لا يُنظر إلى الصوفية بوصفها مقصورة على الدين الإسلامي وحسب، ولكنها تمتد إلى باقي الديانات السماوية، بل وتشتمل على الملحدين أيضًا، كبوتقة روحية قادرة على خلق المشترك والجمع بين المريدين على الأرض.

– تشجيع البحث العلمي المستمر حول المشترك الديني وإعادة قراءة النصوص الدينية المقدسة لوضع الميثاق الإبراهيمي المقدس، ونشر الفكر وتحديثه، ورفع الوعي، وبناء الكوادر العلمية المتخصصة، ووضع خطط العمل التنفيذية لحل الصراعات.

– إن السلام العالمي مدخله الأساسي هو الاستقرار بمنطقة الشرق الأوسط بوصفها أساس استقرار العالم وفقًا لأنصار فكرة “الإبراهيمية”، فالشرق الأوسط هو نطاق التطبيق للمبادرة.

إن من أخطر التحديات الفكرية التي يواجهها المفكرون والمثقفون، فضلًا عن غيرهم من العامة، هي المصطلحات التي تحمل أكثر من وجه، ذلك أن بريق المصطلح واعتياده يخفي وراءه الوجه القبيح الذي يحمله، ومع كثرة استعماله تختلط الأوراق، وتمرر المشاريع الهدامة، ويغدو المعارض لذلك الوجه القبيح غريبًا بين الناس، وحينئذٍ تكون قد نجحت الفكرة. هذا هو حال مصطلح “الديانة الإبراهيمية” أو وحدة الأديان أو الديانة العالمية ونحوها من الألقاب التي ظهر استعمالها. ففي طياتها معانٍ حسنة مقبولة، كمثل التعايش، والسلام، ولكن استعمال تلك المعاني التي لا تتعارض مع الشريعة الإسلامية في الجوهر، إنما هو – في الغالب – تمرير للمعاني الباطلة، وستار للحقيقة المرادة، التي تتمثل بأهداف مروجيها بتمزيق مكونات وروابط الهوية الإسلامية والعربية لدول المنطقة، وبالتالي تيسير السيطرة والتحكم بها وبشعوبها لصالح إسرائيل.

ثانيًا: خلفية تسمية اتفاق التطبيع الإسرائيلي الاماراتي البحريني بــــ (إبراهيم)، ودلالتها

 

تسمية اتفاق التطبيع بين الإمارات والبحرين وإسرائيل بهذا الاسم أثارت أسئلة كثيرة حول دلالات تلك التسمية وخلفياتها، إذ لا يمكن النظر إليها بعيدًا من جذورها وخلفياتها الدينية، التي تكشف بوضوح مدى توظيف السياسي للأبعاد الدينية والتاريخية ما يسهل عليه تمرير أجنداته السياسية تحت غطاء ديني وفق مراقبين].

ففي الوقت الذي ترفع المدرسة الواقعية – الأشهر في ميدان العلاقات الدولية – شعارًا بوجوب خلو عالم السياسة من اعتبارات القيم المعيارية، كالدين، وبأن من المرجح أن يتم معالجة القضايا من منطلق تحليل وأولوية المصالح الوطنية، وكجزء من هذا النهج، وعلى حد تعبير وزيرة الخارجية الأمريكية الأسبق مادلين أولبرايت التي قالت: “سعى العديد من ممارسي السياسة الخارجية – بمن فيهم أنا – إلى فصل الدين عن العالم السياسي لتحرير المنطق من المعتقدات التي تفوق هذا الأخير إلا أنه، في عهد إدارة الرئيس باراك أوباما نشأت حركة من المواقف التوفيقية تعترف بإمكان التعاون الديني السياسي، بسبب إدراك دور الدين في حفز الأفراد وتشكيل وجهات نظرهم.

كما ظهرت تيارات أخرى ترى أن للدين دورًا في العلاقات الدولية كمتغير مستقل أو كمتغير تابع، فيكون مستقلًا عندما يؤثر في اتجاهات وسلوك معتنقيه لتبني مواقف سياسية معينة، فمنذ حقبة الثمانينيات من القرن الماضي ظهر تيار من المحللين والساسة ينظّر للدين كحاكم ومبرر ومفسر، وكمحرك أساسي في مجال العلاقات الدولية، مثل: أندرو روتر (Andrew J. Rotter) عضو مجتمع المؤرخين للسياسة الخارجية الأمريكية. ويظهر الدين كمتغير تابع حينما يستخدم في تبرير السلوك السياسي، أي يستثمر ويوظف لخدمة السياسة الخارجية. هذا، وقد ظهر على أجندة العلاقات الدولية مفهوم “حوار الأديان” أيضًا، وبخاصة بعد الحرب الباردة كمصطلح يشير إلى التفاعل والتواصل بين البشر بصرف النظر عن اختلاف تقاليدهم ومعتقداتهم الدينية، حيث يتم من خلاله تعزيز التفاهم بين الأديان المختلفة لزيادة قبول الآخر. وفي هذا السياق نُظم بعض المؤتمرات، ففي عام 2001، أصدرت الأمم المتحدة تقريرًا بعنوان: “تجاوز الانقسام، وحوار الحضارات”، وتوصلت إلى دور حوار الأديان المهم في ترسيخ التعاون الإقليمي، وخلق مشترك بين الدول التي تختلف في سياساتها الوطنية التي تعلي من اعتبارات المصلحة الوطنية على ما سواها].

وقد كان مفهوم “حوار الأديان” عبارة عن بوابة لتطوير مصطلح “دبلوماسية المسار الثاني” أو “الدبلوماسية الروحية” القائمة على تحويل حوار الأديان إلى خدمات يتم تقديمها بهدف بناء جسور تربط بين الشعوب، مثل: جهود مكافحة مرض الملاريا، والحملات الاغاثية. فلم يعد دور الأديان مجرد إدارة للصراع أو النزاع، وإنما فاعل على الأرض لخلق سلام ديني عالمي. ومن ثم، أن توظيف الدين في العمل السياسي ليس بالجديد، وربطه بالروح التي مصدرها الله تعالى بهدف تحقيق أهداف الدولة باستخدام لغة القيم الدينية والعقائد التي تمس القلوب، وذلك، من أجل ضمان قبول تلك الأهداف، بل ودعمها الداخلي.

لقد سعت وزارة الخارجية الأمريكية في عهد هيلاري كلينتون إلى مَنهجة تفاعلها مع القادة الروحيين عبر إنشاء فريق عمل حول الدين والسياسة الخارجية، من أجل ضمان فرصة التشاور والتعاون المتبادلين، حيث يقدم فريق العمل الذي أنشئ تحت إشراف الهيئة الاستشارية الفدرالية حول الحوار الاستراتيجي، والذي يضم نحو 100 من القادة الروحيين ومسؤولين في وزارة الخارجية، المشورة والنصح لوزير الخارجية. ثم قام وزير الخارجية جون كيري بتعيين شون كيسي وهو عضو في الميثودية المتحدة وأستاذ في الحلقات الدراسية اللاهوتية بجامعة ويسلي في واشنطن، ليدير مكتب وزارة الخارجية الأول للمبادرات الدينية، والمكرّس للشراكة مع المجتمعات الدينية العالمية والقادة الروحيين بشأن قضايا أولية مثل، التحولات في المنطقة العربية، والسلام في الشرق الأوسط، والتغيرات المناخية، وحقوق الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة. وعند إطلاق المكتب الجديد في آب/أغسطس 2013، اعترف “كيري” بالأرض المشتركة للديانات الإبراهيمية].

كما أشار السفير الأمريكي المتجول للحرية الدينية الدولية صمويل د. براونباك في معرض رده على استفسار حول سبب تفاؤله بأن الحركة العالمية للحرية الدينية قد انطلقت وتتوسع دون توقف، وذلك خلال المؤتمر الوزاري الافتراضي لعام 2020 لتعزيز حرية الدين أو المعتقد، الذي استضافته حكومة بولندا في 17 تشرين الثاني/ نوفمبر. وذلك على هامش الاجتماع الوزاري، برعاية وزير الخارجية الأمريكية مايك بومبيو لمنتدى وزراء تحالف الحرية الدينية أو المعتقد الدولي، والذي جمع أكثر من 50 دولة ومنظمة دولية وتضمن مناقشات حول قضايا الحرية الدينية الأكثر إلحاحًا في العالم. إلى أن السبب يرجع إلى أن هذه حركة تحظى بتأييد من كِلا الحزبين الجمهوري والديمقراطي على حد سواء، وقد أُنشئت بموجب قانون “فرانك وولف للحرية الدينية” وتجديده. لقد كان قانونًا مدعومًا من الحزبين، فقد وقعه الرئيس أوباما” عندما كان في منصبه، وما زال يحظى بتأييد كبير من الحزبين في كلا المجلسين. وأضاف بأن “هناك رغبة واضحة من جانب أعضاء المنتدى بتشجيع الحوار بين الأديان كوسيلة لبناء التفاهم، وكذلك للحد من العنف، حيث نرى بشكل خاص الكثير من العنف في الشرق الأوسط، ونبحث عن طرق لاحتوائه، وإشراك علماء الدين من الديانات الإبراهيمية ليوضحوا أن الدين لا يدعم استخدام العنف].

من البديهي والمتعارف عليه في حقل السياسة كعلم أو كممارسة عملية بأن عالم السياسة لا يقبل الفراغ أو العشوائية، وهذا ينسحب على أبسط الأنظمة السياسية وأعقدها، بمعنى، أن مراكز الفكر والبحث، أو مراكز صنع القرار السياسي الرسمي في أي من دول العالم لا تتخذ، سواء العالم الثالث أو النامي، أو عالم الغرب المتقدم، أي خطوة أو قرار بمحض المصادفة أو نتيجة رغبات وميول شخصية، فكل نظام له أولوياته ومؤسساته الوطنية التي من خلالها يمارس الفعل السياسي على الأرض

وفي ضوء ما ذكر، يتضح بأن مسألة تغيير رغبة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في تسمية اتفاق التطبيع بين كل من إسرائيل من جهة والامارات والبحرين من جهة أخرى، من “اتفاق ترامب” إلى “اتفاق إبراهيم” ليست من قبيل المصادفة أو خوفًا من انتقادات الاعلام – حسب تعبيره –[21]. بل إنها تمثل خطوة تم اتخاذها عن قصد، وبناءً على توجهات فكرية وسياسية مقررة منذ عقود، تعتمد بالأساس على توظيف الدين لخدمة السياسة الخارجية الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، وفي الصراع العربي- الإسرائيلي بوجه خاص.

ولم يقتصر الأمر على الدعوات والمؤتمرات والتعميمات (تسمية اتفاق التطبيع اتفاق إبراهيم، والديانات الإبراهيمية، والأرض الإبراهيمية، ومسار إبراهيم، والبيت الإبراهيمي). بل تجاوزها إلى حدود الفعل أو التنفيذ على الأرض وفي أكثر من مجال، ومن أهم آليات هذا التنفيذ]:

– استغلال اسم سيدنا إبراهيم عليه السلام، باعتبار أن ذكره يحمل القبول والقدسية والتقارب، ويمثل المشترك بين الأديان، ومن هنا كانت التسمية الإبراهيمية.

– الجمع بين رجال الدين والسياسة (أصحاب القبول والتأثير في الشعوب) ليعملوا معًا لوضع المتفق عليه دينيًا على الأرض، وترجمته سياسيًا لحل الصراعات المتشابكة، ووضع خريطة جديدة لإعطاء “أصحاب الحق الأصلي” حقهم في الخريطة الجديدة.

– وضع ميثاق، كبديل من المقدسات السماوية، يحوي المشترك بين الأديان، ويكون له وحده القدسية، دون سائر الأديان والمقدسات.

– يتم تكوين مجموعات تنظيمية يطلق عليها “أسر السلام”، تنتشر بكل الدول والمجتمعات التي تعاني نزاعات دينية قائمة، ليتم حلها بتطبيق الميثاق الإبراهيمي المشترك.

– ترديد وترسيخ ألفاظ تتعود عليها الشعوب، ويتم إضفاء قدسية عليها، مثل: “الاتفاق الإبراهيمي – القدس المدينة الإبراهيمية – الميثاق الإبراهيمي – …” لتتعود عليها الشعوب وتصبح مسميات مقدسة عندهم، وبالتالي مع الوقت تجريم من يرفضها أو يعترض عليها.

– إيجاد شعائر تعبدية جديدة يجتمع عليها أصحاب الأديان الثلاثة.

– العمل على جذب المريدين من أفراد أو مؤسسات أو حتى دول وحل مشاكلهم المادية، وبخاصة في الدول الفقيرة، لضمان ولائهم للفكرة.

إن الدبلوماسية الروحية، التي تعَدّ مظلة الترويج لهذا المصطلح – الإبراهيمية -، قد نشطت منذ مطلع الألفية من خلال مراكز متخصصة، لمحو الفواصل بين الأديان، ودعوة لقيام الدين الإبراهيمي العالمي، بما يمهد الأرض عمليًا لاستيلاء إسرائيل على الأراضي المحتلة (العربية والفلسطينية). كما أن المخطط الذي تدعمه دول غربية لتصفية الصراع العربي- الإسرائيلي خطير ولا يمكن الاستخفاف به. حيث تذهب هبة جمال الدين للتأكيد أن المراكز الإبراهيمية تُعد لـ “كتاب مقدس” جديد مأخوذ من نصوص من الكتب السماوية، لكنها ليست محل خلاف بين أتباع الديانات الثلاث، موضحة أن الصراعين العربي – الإسرائيلي والسني – الشيعي، على قمة أجندات هذه المراكز، لأن الهدف النهائي هو تهويد مدينة القدس وتصفية القضية الفلسطينية وتمزيق الوطن العربي، والسيطرة والتحكم بالمنطقة ككل، وتمكين إسرائيل من السطو على المقدسات الإسلامية والمسيحية].

ويرمي مصطلح “السلام الإبراهيمي” بوجه صارخ إلى عرض العلاقة بين الوطن العربي وإسرائيل، دون أي رابط بتاريخ الصراع بين العرب والصهاينة، وتقديمها على أنها علاقة بين الأديان الثلاثة، التي تمثل أبوة النبي إبراهيم عليه السلام، مشكاتها الأساسية، دون أن تتأثر هذه العلاقة بالظروف والتطورات التي قادت إلى ولادة الكيان الصهيوني – إسرائيل – على أرض فلسطين].

باختصار، يندرج حرص الرئيس الأمريكي ترامب على نعت اتفاقات التطبيع بين إسرائيل وكل من الإمارات والبحرين، والاتفاقات التي تبشر بإنجازها في القريب العاجل بـ “اتفاقات إبراهيم” في إطار إستراتيجية واضحة وخطيرة تهدف إلى محاولة فبركة رواية جديدة للصراع، واختلاق سردية له تقوم على إعادة تموضع العدو والحليف في شبكة العلاقات التي تحكم العلاقات الإقليمية في المنطقة ككل.