23 ديسمبر، 2024 7:37 ص

ماكينة الفساد وتفريخ الاحزاب!

ماكينة الفساد وتفريخ الاحزاب!

بعد ما يقرب من مائة عامِ على تأسيس مملكة العراق وستين عاماً من الحكم الجمهوري الدموي، وتجربة ممارسة تداول السلطة بدون انقلابات منذ خمسة عشر عاماً، تندفع عشية انتخابات البرلمان الأخيرة أفواج من الكيانات والكائنات السياسية على شكل أحزاب تجاوزت أعدادها 204 كياناً سياسياً، يندر أن يجد الباحث بينهم أكثر من عشرة أحزاب بمفهومها المعروف سياسياً وتاريخياً في العراق وكوردستان، مما أدى إلى إنتاج برلمانِ مُعاق يعاني أصلاً من شللٍ نصفي كونه يعمل بنصف هيئته، لأن المجلس الاتحادي معطل ومرفوض من قبل الحيتان المذهبية والقومية، ويتمتع أعضاؤه أي أعضاء هذا النصف رغم عَوقهِ بامتيازاتٍ لصوصية لا مثيل لها في كل دول العالم الغنية والفقيرة، مما جعل التكالب على تلك المواقع وتأسيس الأحزاب واحدة من أكثر عمليات الفساد بشاعةً في العالم السياسي.
دعونا نعود قليلاً إلى الوراء حيث عرفت النخب العراقية النظام الحزبي مع مطلع القرن الماضي وتأسيس جمعية الاتحاد والترقي، وباستثناء ذلك لم تكن هناك خارطة سياسية حزبية إلا بعد تكوين المملكة العراقية، حيث بدأت بعض النُّخب بتأسيس جمعيات وأحزاب عمودية لا علاقة لها بالأهالي إلا بالاسم فقط، باستثناء الحزب الشيوعي العراقي وما تلاه من ولادة أحزاب قومية يسارية. كانت معظم الأحزاب الأخرى لا علاقة لها بالأهالي إلا وقت الانتخابات كما يحصل الآن بعد ما يقرب من مائة عام. فقد ساد في العراق في فترة مابين 1921 وحتى 1958 نمط من تداول السلطة على الطريقة الغربية، حيث نجح البريطانيون في إقامة نظام ملكي برلماني تتبادل فيه النخب السياسية حينذاك كراسي الحكومة والبرلمان، لكنها ما لبثت أن انتهت بانقلاب عسكري دموي نفذته مجموعة من الضباط بتأييد بعض الأحزاب التقدمية والقومية وفي مقدمتها الحزب الشيوعي العراقي وحزب البعث العربي الاشتراكي والحزب الديمقراطي الكوردستاني، هذا الانقلاب أو “الثورة” كما أُطلِق عليها، أجرت تغييراً حاداً في بنية النظام السياسي وأعلنت بديلاً للمملكة العراقية “جمهورية عراقية ” اختلف مؤيدوها وعناصر تكوينها فيما بينهم لتتحول الجمهورية الخالدة إلى بحر من الدماء إثر انقلابٍ آخر أطاح بها وبزعيمها الأوحد في الثامن من شباط عام 1963 لتبدأ سلسلة من الحروب والصراعات لم تنتهِ حتى يومنا هذا!
بعد هذه النبذة السريعة نعود إلى أيامنا المنحوسة هذه في ظل أحزاب الزينة وحسد العيشة التي تكاثرت وانشطرت بشكل سرطاني مُذهل يُعبر بشكل واضح عن تكالب مجاميع البحث عن السحت الحرام تحت يافطات بدأت بمنظمات أو دكاكين المجتمع المدني، وانتهت إلى أحزاب بيتية وعشائرية لا تمت بأي صلة إلى الواقع الاجتماعي ولا إلى حاجيات الأهالي، لأنها منتوج سيئ لمنتِج فاسد ومرحلة بائسة اختلطت فيها الألوان والأذواق، حتى لا يكاد المرء يميز بين الصالح والطالح!
أقول قوليَ هذا في بلاد تأنُّ من جروح حروبها وقادتها وأحزابها وأنا أرى بلاداً حافظت على رصانة مجتمعاتها وتطورها واستقرارها وعززت أمنها وسلمها الاجتماعيين بلا مزايدات ولا شعارات فارغة، مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والعشرات من الدول والمجتمعات الشبيهة بدولتنا، لا تتجاوز أحزابها الخمسة عشر حزباً، تتداول السلطة فيما بينها حسب أدائها وتنفيذها لبرامجها المعلنة للجمهور دونما امتيازات ولا معاشات مغرية تتكالب عليها الذئاب.
صدقاً لا خيرَ في دولةٍ كَثُرت أحزابها!