في ذاكرة الريف قبل عقود من يومنا هذا، في قرية تُدعى العين واصفيه، كانت ماكينة الطحين تمثل رمزًا من رموز المشاريع الصناعية في المنطقة، وربما كانت المشروع الوحيد من القطاع الخاص في ذلك الوقت. كان أبناء القرى يعيشون على مبدأ الاعتماد على النفس والاكتفاء المحلي، وهي الخطة الرئيسية التي لا غنى عنها لكل بيت ريفي في القرى الزراعية. تُنقل حبوب الحنطة من البيادر في موسم الحصاد إلى خزان صغير مصنوع من الطين يُسمى (الكولكة)، ثم تُسحب كميات منه تقاس بتلك التنكة أو الوعاء الخشبي ويُسمى (وزنه)، وبعدها إلى رحى الطاحونة. كنا نسلك الطريق الترابي الطويل الممتد من قريتنا حتى ناحية الشورة، لا نهاب الغبار أو لهيب الصيف أو مطر الشتاء أو تعب الدروب، فالوصول إلى الطاحونة كان يعني الخبز والعيش، ويعني أنك جزء فعال من تلك العائلة.
كانت الطاحونة الواقعة في ناحية الشورة ملكًا للحاج جاسم الأحمد، ثم انتقلت فيما بعد لتصبح ماكينة تعمل بالطاقة الكهربائية وتعود ملكيتها إلى الحاج مديد، رحمهم الله جميعًا. كانت تحت إدارة أبنائهم الذين عُرفوا بدرايتهم وعلاقتهم الطيبة مع أبناء القرى المجاورة. في تلك السنوات، كانت الطاحونة أو ماكينة الطحين القديمة تعمل بقايش الماء وكانت من أقدم وأبسط أنواع الطواحين، تُدار بماكينة يديرها قايش يمر فوق خزان مائي، حيث يُستغل دورانه لتحريك الرحى، قبل أن تأتي محركات الكهرباء وتحول الطواحين إلى آلات أكثر قدرة وكفاءة.
وبعد مرور فترة من الزمن، شهدنا إنشاء طاحونة جديدة في قرية الرصيف التابعة لنفس الناحية، يديرها رجل يُدعى صالح الأخرس، وهو اسم أصبح معروفًا لدى كل من يبحث عن طحين نظيف ومعاملة حسنة. أصبح الذهاب إلى طاحونة الأخرس رحلة أقرب وأسهل لأهل القرى المحيطة، ولا تزال في الذاكرة أصوات المحركات تعانق رائحة الحنطة المطحونة، في مشهد ريفي لن يتكرر.
لكننا اليوم نعيش في عالم مختلف تمامًا، حيث تغير كل شيء، ونحن ندخل العصر التكنولوجي الصناعي، حيث معامل الطحين الضخمة بآلاتها العملاقة وتقنياتها الحديثة التي باتت تؤمن لنا أنواع الطحين وتكفي لكل العائلات، كونها هي من تُنتجه وتعبّئه وتوزّعه بكميات كبيرة ضمن مفردات وجبة غذائية توزعها وزارة التجارة شهريًا ضمن برنامج حكومي معروف منذ تسعينيات القرن الماضي يسمى برنامج البطاقة التموينية. لم نعد بحاجة إلى “رحى” أو “طاحونة قرية”. لقد تغيّر المشهد، واندثرت معه تفاصيل كنا نعدّها يومًا من ملامح الحياة البسيطة.
ورغم الراحة التي جلبتها التقنية الحديثة، إلا أن الحنين لتلك الطرق الزراعية، ولصوت الماكنة القديمة، ولوجوه من كانوا يديرونها، لا يزال يسكن فينا. ففي كل ريف، تختبئ قصة، وفي كل ماكنة طحين، حكاية من حكايات أهل الأرض. تنقلها لكم أقلامنا نحن كتاب أبناء القرى والأرياف الذين ما زالوا يعيشون مع ذكريات الطفولة والشباب في تلك القرى الطينية بعيدًا عن العصرنة التكنولوجية…