“الشر خير والخير شر…..”!
“كن دمويا وجريئا وحازما”
بهذه الكلمات المبهمة الغامضة تعلق الساحرات الثلاث على خروج ماكبث من معركته التي استهل بها هذا الفيلم الملحمي منتصرا!
مخلصا تماما للدراما الشكسبيرية الخالدة وملتزما بنكهة سينمائية فريدة، يقوم المخرج (جوستين كورزيل) بصنع هذه الملحمة التاريخية الشيقة، مستغلا زخم النجومية الطاغي لمايكل فاسبندر، الذي قدم أداء مذهلا بكل المعايير…انها الاعادة السينمائية الجديدة لمسرحية شكسبير الشهيرة، تتحدث عن مقاتل جسور وقائد ملهم يتم احباطه بقمع شجاعته واندفاعه، ولكنه يستند للرغبة الكاسحة والطموح الجشع للقيام بالدور الذي رسمه له القدر…انه عرض سينمائي مذهل وممتع للحقائق الدرامية التاريخية في زمن الحروب والفتوحات، متناولا واحدا من اكثر الشخصيات “الأدبية” شهرة وجدلا، متحدثا عن
الشغف والطموح والخيبة والارتياب بزمن الحروب التي مزقت ذات يوم “اسكوتلندا”!
يسحرك كمشاهد الاقتباس السينمائي “الدرامي-الشعري- الملحمي” للمسرحية الاسكتلندية الشهيرة، فيلم دموي وشجاع يحتوي على كم كبير من المشاعر والدماء والبرود، حيث زوجة جميلة طموحة وجشعة مندفعة، لا يوجد من هو احسن من فاسبندر كجنرال قاتل مندفع مع النجمة الفرنسية “ماريون كوتيلارد” بدور الزوجة المهووسة بالسلطة والحكم، لا يوجد قط من يستطيع تقديم هذه الملحمة أفضل منهما!
لم يضحي المخرج الفذ بالغموض “الشكسبيري” ليحقق شريطا شعبيا، وقد شاهدت نصف الحضور القليل يغادر القاعة، وانغمس مصمم الصوت والموسيقى التصويرية بأدق التفاصيل حت سمعنا “صوت السيف الاسفنجي” وهو يمزق الأمعاء، كما وهو ينفذ للأعناق ويقطع الرؤوس فتنزف الدماء غزيرة…تكامل هذا الأداء الصوتي المثير مع الموسيقى التصويرية المعبرة، ومع الرغبةالبصرية الجامحة للاستحواذ على الأداء والحوار، مما انتج فيلما متكاملا صعب الاختراق: فماكبث “فاسبندر” بطل قدري استهلكته القوة والشعور الملح بالذنب لاغتياله الاجرامي للملك بتحريض زوجته، وهو مرعب في آن ومثير للشفقة، حيث تم تقديم دراسة سيكلوجية عميقة للجريمة والانهيار الذاتي التدريجي، تفوق ربما ما قدمه “دوستوفسكي” بروايته الخالدة “الجريمة والعقاب”، كما أبدعت (كوتيلارد) بدور المحرضة التي ولدت العزم الكاسح لدى ماكبث، ثم انساقت معه بحالة “التفكك الداخلي”….المعالجة السينمائية للرواية كان فريدا من حيث التأرجح
بين النزعة لخلق الحياة والمجد وبين الرغبة الكاسحة بتدميرها…لا اؤيد هنا رأي بعض النقاد “المتسرعين” للفيلم بأنه أعطى الأولوية للاسلوب على حساب المضمون، بل اعتقد انه حافظ بمهارة على توازن دقيق متصاعد وحابس للأنفاس، مراعيا عناصر ” الطموح والخوف والريبة والشعور بالذنب امتدادا للجنون التدميري الماحق”، وقد اقتحم العصور المظلمة بجرأة نادرة، مصورا عمق المأساة التراجيدية في “فرادة” درامية “مخيفة وممتعة”!
كذلك لا اوافق التبسيط الساذج للملحمة الذي كتبه أحد الروائيين: “…القائد ماكبث الذي اغتال حاكمه ليجلس مكانه، يشاهده الحارس فيقتله خوفا من تفشي السر، ثم يشاهده ثلاثة حراس آخرين وهو يقتل الحارس، فيقتلهم خوفا من انكشاف أمره، وبين الخرائب المتراكمة في الطرائق فهو يقتل بجنون كل من يلتفت اليه خوفا من ان يكون قد شاهد القتل…ثم يصل لنتيجة “مضللة” وهو ينهي الاقصوصة: “في الليل سقط ماكبث قتيلا وهومضرج بدماءه”!
يقود ماكبث القوات الملكية بالمعركة الأخيرة، محققا الظفر للملك “دونكان”، ويشعر بالغيرة والحسد من تنصيب الملك لابنه “مالكولم” كأمير وولي عهد، وتحرضه زوجته الطموحة لكي يقدم على ما أضمر في سره، فيقدم على قتل الملك بمقصورته بعدة طعنات نجلاء مخضبا يديه بدماءه، ثم نرى أن ابن الملك قد شاهده بعد مقتل الملك، ولأسباب نجهلها نراه يتركه ليهرب ممتطيا حصانه…ثم يذهب “ماكبث” لزوجته ويعطيها الخنجر، فتلتقيه لاحقا بالكنيسة لغسل أيديهما الملوثة بالدماء، وكان بالماء “سحر” قادر على غسل ذنبهما
الكبير…ثم يقدم”ماكبث” على ذبح الخدم الثلاثة النائمين حتى لا ينكشف أمره، ويصيح بتبجح: “أنا ملك اسكتلندا”!
ولكن تداعيات مقتل الملك تستولي على ذهنه وأفعاله لاحقا، فيعود يشكو من عبثية “قتل الملك دونكان” لأن الملك سيذهب لبانكو وابنه حسب النبؤة…هكذا يدعو”بانكو وابنه الصبي” لحفل العشاء الفخم المقرر لتنصيبه ملكا، فيعده بانكو بالحضور بعد أن يقوم بجولة هامة مع ابنه الصبي، فيرسل مجموعة فرسان ثلاثة لاغتيالهما، فينجحون ويقطعون رأسه، ولكن ابنه الصبي يهرب للغابة ناجيا بنفسه، وتعلمه المجموعة بالاغتيال ونبأ هروب الابن…فنراه بلقطات معبرة يرى “مهلوسا” بانكو وكأنه موجود برفقة ضيوف الحفل الكبير، ونراه يذهب متحدثا “للشبح” الذي لا يراه احد سواه، وتحاول الليدي ماكبث تهدئة الجمع المذهولين بحجة “أن زوجها ليس على ما يرام”، ولكن ماكبث” يستمر بهذيانه، مما يستدعي مغادرة “ماكدوف” القاتل وزوجته للحفل بالرغم من اصرار الملك على بقاءهما، ويتوتر الجو فتأمر”الليدي ماكبث” جميع الضيوف بالمغادرة، وتأخذ ماكبث لغرفتها محاولة تهدئته من مخاوفه وهلوساته، ثم يهرب خلسة للغابة ليلا ليتحدث ويستشير ساحرات الغابة الثلاث (مع ابنتهم )، لكنهن لا ينجحن بتهدئة مخاوفه المستفحلة…ثم يعطي الأوامر الصارمة لعصابته بأسر عائلة ماكدوف واطفاله وخدمه، ويقوم بحرقهم بعد تعليقهم على نواصي خشبية امام جمع مؤيديه…فيشتعل الحقد بقلب ماكدوف بعد علمه بالمذبحة متوعدا بانتقام شديد، ويتعاون مع ابن الملك الهارب لتشكيل جيش عرمرم مكون من عشرةآلاف مقاتل لغزو اسكتلندا …تعود الليدي ماكبث لقريتها، خائبة ومتروكة وحزينة، ثم تتجه للكنيسة للاعتراف بخطاياها ومشاركتها بالجريمة، ثم ترى شبح
ابنها الميت، وتذهب عبر الغابة لترى الساحرات الثلاث، وتسري اشاعة في القلعة بأن ماكبث قد جن مما يفسر هوجه وسلوكياته المتسلطة وغضبه الهيستيري الشديد، ثم يخبر بأن زوجته قد ماتت، فيحمل جثتها ويسير بلا هدى محاولا احتضانها “واقفة” في لقطة “تراجيدية” معبرة…ثم يخبره الحرس بأن مالكولم يقود جيشا ضده، كما يحرق”ماكدون” غابة بيرنام، وبينما تتجه “الأدخنة والرماد” باتجاه القلعة الملكية، وتتحقق النبؤة، يغادر “ماكبث” القلعة لمواجهة جحافل الجيش المهاجم، ويدخل في نزال مع “ماكدوف”، واثقا من انتصاره الكاسح عملا بالنبؤة التي تقول “أن لا رجل مولود من امراة سيستطيع قتله”، ولكن “ماكدوف” يفاجئه بالقول بأنه قد “انتزع من رحم امه قبل ولادته”، ثم يستغل اندهاش وتشتت ماكبث ليطعنه باحشائه طعنة قاتلة، ولكن ماكبث كعادته يرفض الاعتراف بالهزيمة والموت سريع، ثم يعيد ماكدوف الكرة فيطعنه عدة طعنات قاتلة، ليموت “ماكبث” واقفا في ساحة المعركة، ليصبح مالكولم ملكا شرعيا لاسكتلندا…ثم نرى الساحرات الثلاث وقد شهدن المعركة الفاصلة ومقتل ماكبث وهن يغادرن والحيرة تملأ وجوههن ليختفين عبر الضباب …في المشهد الأخيرالمعبر، نرى “مالكولم” وهو يغادر قاعة العرش بينما يقوم “ابن بانكو” الصبي الشجاع بأخذ سيف”ماكبث” مغادرا مسرح المعركة ومختفيا عبر الدخان…
يحفل هذا الفيلم الرائع بالاقتباسات “الشكسبيرية” البليغة والمعبرة والتي تصدر بمعظمها عن ماكبث كما عن الشخصيات الاخرى كزوجته والساحرات وخصومه، وقد لاحظت انها تنسجم بالسياق مع قوة الشخصيات والمواقف وتراجيدية الأحداث وفق التصاعد الزمني: أنا توغلت بالدماء…عقلي مليء بالعقارب…اذا كنا سنفشل فلن نفشل!
هذه اللوحة تحديدا منحوتة من مخاوفك…ما الحياة الا ظل متحرك…هناك الشرف والحب والأصدقاء…ولكن أيضا “الموت واللعنات”! لا يوجد لدي كلمات، وصوتي يكمن داخل سيفي…ما انجز قد انجز…اجرؤ على القيام بكل ما هو بطولي، ومن يجرؤ على بذل المزيد “لا احد”! يقولون بأن الدم سيولد الدماء…حرقنا الثعبان ولم نقتله…والتعبير البليغ: “النجوم تخفي نيرانك، فلا تدع الضؤ يرى رغباتي العميقة المظلمة”… ثم قول ماكبث الأخير قبل مقتله: “سأقاتل بعظامي وحتى يخترق لحمي”، وبالفعل فهذا ما حدث تماما بمنازلته المثيرة الأخيرة!
هذه الدراما التراجيدية هي انتاج “بريطاني-فرنسي-أميركي”، وقد عرضت للمنافسة على السعفة الذهبية لمهرجان كان للعام 2015، وبالاضافة للدورين الرئيسيين، قام كل من “بادي كونسيداين وسين هاريس وجاك رينور واليزابيت ديبيكي ودافيد ثيوبس ورون أندرسون بأدوار كل من “باركو، ماكدوف، مالكولم، الليدي ماكدوف، والملك دونكان، وروسي بأداء متناغم بديع ومتكامل.
[email protected]