(هزيمةٌ نظيفةٌ أفضلُ من انتصارٍ متسخٍ).. هكذا قال البابا فرنسيس الحبر الأعظم للكنيسة الكاثوليكية في العالم في تعليقٍ له على بعض الرياضيين الذين يستعملون العقاقير المنشطة.
وتوقفتُ كثيراً عند وصف البابا للاعب كرة القدم الأرجنتيني دييغو مارادونا بـ (الشاعر في الميدان) !
كان ذلك في مقابلةٍ نُشرت في صحيفة (غازيتا ديلو سبورت) ، يوم السبت الموافق ٢٠٢١/١/٢م ونقلتها وكالة الصحافة الفرنسية.
هل كان ذلك مديحاً أم رثاءً للاعب الأُسطورة الذي رحل عن عالمنا، وقد بلغ الستين عاماً في الخامس والعشرين من شهر تشرين الثاني لسنة ٢٠٢٠ م ؟
تحدث الحبر الأعظم عن مارادونا بالقول : كان بطلاً كبيراً منح السعادة لملايين الناس، في الأرجنتين ، ونابولي، مشيراً إلى أنَّه صلى من أجل الراحل، وأرسل مسبحةً إلى أسرته مرفقةً بكلمات تعزيةٍ .
في الصحيفة ذاتها تطرق البابا الذي يُشجّع نادي سان لورنزو الارجنتيني إلى أوجه الشبه بين الرياضة، ومعتقداته، وانتقد الأبطال الأغنياء الذين أصبحوا خمولين،وبيروقراطيين في رياضتهم !
مضيفاً : شخصياً ، أعتقد أنَّ القليل من الجوع هو السرّ في عدم الشعور بالتخمة إطلاقاً . أمّا رأي البابا بموضوع تعاطي المنشطات في عالم الرياضة فوصفه بأنَّه ليس مجرد غشٍ، بل اختصارٌ يدحض الكرامة، لا يمكن تصنيع أيّ بطلٍ في المختبر. حصل هذا الأمر، ولسنا متأكدين من عدم تكراره، حتى لو كنا نأمل عدم حدوثه ! لكن مع الوقت، سنميّز بين المواهب الأصلية، وتلك التي تم تركيبها: البطل يولد ويتطور من خلال التمارين.
وأردف قائلاً :إنَّ تعاطي المنشطات يرقى إلى سرقة الشرارة التي منحها الله، من خلال مساراته الغامضة للبعض بطريقة خاصة وكمية أكبر.
حديث البابا قادني إلى ذكريات الهدف الذي سجله مارادونا بيده اليسرى على منتخب انجلترا يوم الأحد الثاني والعشرين من حزيران سنة ١٩٨٦ موهماً الملايين الذين تابعوه عبر التلفاز، والجماهير الذين بلغ عددهم ١١٤٥٨٠ متفرجاً في ملعب أزتيكا في مدينة مكسيكو، والحكم التونسي علي بن ناصر في مباراة ربع النهائي.
تقدمت الأرجنتين أولاً في الدقيقة ٥١ عندما سجل مارادونا هدفاً بيده اليسرى في مرمى الحارس الإنجليزي بيتر شيلتون، ولم تكن وقتها تقنية (الفار) موجودة لتقليل الخطأ البشري فجرى احتساب الهدف.
بعدها بثلاث دقائق سجل مارادونا هدفاً ثانياً بقدمه أُختير حسب التصويت عليه في موقع الإتحاد الدولي لكرة القدم سنة ٢٠٠٠م كأفضل هدفٍ، ووصف بأنَّه (هدف القرن) بعدما تجاوز سبعة لاعبين من لاعبي منتخب إنجلترا
والحارس بيتر شيلتون، ليسجل الهدف الخالد وتنتهي المباراة (١/٢)، وتتأهل الأرجنتين إلى المباراة النهائية أمام ألمانيا الغربية، وتفوز عليها بنتيجة (٢/٣) يوم التاسع والعشرين من شهر حزيران سنة ١٩٨٦م.
حين سئل مارادونا عن الهدف الذي سجله بيده لم ينكره، وأجاب جواباً شعرياً بالقول : (يد الربّ سجلت الهدف).
لكن ما أهمية هذا الفوز بالنسبة للأرجنتين ؟
تعالوا إلى الجانب السياسي الذي لا ينفصل عن الرياضة مهما بُذلت من جهود في هذا المضمار، فقد احتلت الأرجنتين يوم الثاني من نيسان سنة ١٩٨٢ م جزر فوكلاند ، ثمَّ احتلت جورجيا الجنوبية في اليوم التالي، لكنَّ بريطانيا التي مازالت مصرةً على أنَّها الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس أرسلت في الخامس من نيسان فرقة عمل بحري للاشتباك مع سلاح الجو والقوات البحرية الأرجنتينية،ثمَّ شنت هجوماً برمائياً على الجزر. استمرت المعارك ٧٤ يوماً ، وانتهت باستسلام الأرجنتين في ١٤ حزيران سنة ١٩٨٢، وعادت جزر فوكولاند للسيطرة البريطانية.
قُتل في الصراع ٦٤٩ عسكرياً أرجنتينياً مقابل ٢٥٥ عسكرياً بريطانياً، وراح ثلاثة مدنيين من جزر فوكولاند ضحايا الصراع.
لم تنتهِ الحكاية.
صارت عبارة مارادونا ( يد الرب سجلت الهدف) عبارةً إيقونيةً، وكانت مفتاحاً لمنحه صفات القداسة بين معجبيه، وأُفتتحت كنائس سميت بالكنيسة المارادونية، في الأرجنتين، وإيطاليا، والبرازيل، والمكسيك ودول أخرى.
يتبع الكنيسة المارادونية الآلاف، ويقيمون احتفالاً بميلاد مارادونا في الثلاثين من تشرين الأول من كل عام.
ومن رموز الكنيسة الرقم ١٠ على القميص الذي ارتداه مارادونا، ويسمّي أعضاء الكنيسة من ساعدوا مارادونا خلال مسيرته بـ(الرسل) في حين يكنّون العداء لكلّ من اضطهده أو وقف في طريق نجاحه.
لم يكن مارادونا لاعب كرة قدم عبقرياً فحسب بل كان أيضاً قائداً ومحفزاً، رغم نشأته الفقيرة، والنقاط المعتمة في حياته (علاقته بالمنشطات والمخدرات) .
وحسب موقع الجزيرة في ٢٠٢١/١/٢٦ فإنَّ هناك لغزٌ أكبر خبأه مارادونا في دبي، أثناء تدريبه لناديي الوصل والفجيرة ، ومنها خزانتان تركهما في دبي، ولم يُفتحا منذ عامين، ولا يُعلم ما بداخلهما سوى النجم الراحل فقط.
ويشتد الصراع على ميراث مارادونا بين زوجته السابقة كلوديا فيلافان، وأبنائه الخمسة المعترف بهم فضلاً عن صراعٍ آخر بين ستة أبناء يسعون لإثبات نسبهم للنجم الراحل حتى ينالوا نصيبا من تركته، الأمر الذي دعا المدعي العام الأرجنتيني إلى رفض إحراق جثة مارادونا، للحاجة الماسة إلى حمضه النووي في قضايا إثبات النسب المتعددة التي بدأ بعضها قبل موته.
وذكرت صحيفة (ماركا) الإسبانية : إنَّ الأصول التي كان يمتلكها مارادونا كثيرة ومتنوعة، حيث يمتلك عقاراتٍ وسياراتٍ وساعاتٍ باهظةٍ الثمن، فضلاً عن خاتم من الماس حصل عليه خلال الفترة التي كان فيها رئيساً لنادي دينامو بريست في روسيا البيضاء.
وقال موقع (سيلبرتي نت وورث) : إنَّ أصول مارادونا تقدر قيمتها بنحو ٧٥ مليون دولار أمريكيّ.
سيظل مارادونا ملاكاً بالنسبة لمعجبيه، ومحبيه، وقديساً للمنتمين إلى الكنيسة المارادونية، وشيطاناً بالنسبة لمن يُخضع أفعاله إلى المنظومة الأخلاقية بوصفه أكبرغشاش في التاريخ !
وإذا كانت حياته مليئةً بالمفارقات، والتناقضات فهي ربما لا تختلف عن حياة أي شاعرٍ مُجيدٍ في شعره! فالاثنان لاعبان ماهران، فاللاعب شاعرٌ مراوغٌ في ساحة الملعب، والشاعر لاعبٌ ماهرٌ في اللغة، والشعر !
أليس أعذب الشعر أكذبه !!