23 ديسمبر، 2024 6:58 ص

ماذا ينتظرنا بعد؟

ماذا ينتظرنا بعد؟

يعيب كثير من الآباء على أبنائهم أنهم لايشبهونهم في كثير من الأشياء، وليس مستغربا، بل هو المعتاد، أن تجد أبا يؤنب أو يوبخ ابنه على كثير من الامور، كطريقته في الكلام مع والديه و مع الكبار عموما أو على عدم انغماسه في الدراسة او على ملبسه ومأكله و قيامه وقعوده، هذا فضلا عن التصاقه بوسائل الاتصال الحديثة من الهواتف النقالة والحواسيب اللوحية دون أن نستثني الألعاب الالكترونية ومشاهدة التلفاز وسواها من أصنام العصر الحديث، مستعينا بالعبارة الخالدة: “عندما كنا في مثل سنكم” ليضيف بعدها سلسلة لا تنتهي من البطولات الأخلاقية والدراسية والعلمية، تـصور الأب كبطل خارق وفارس مقدام بل قل ملاكا بجناحين.

الأمر الذي لايمكن إنكاره، أن أخلاقيات وقيم العصر الحديث مختلفة بشكل كبير، إن لم يكن بشكل تام، عن مثيلاتها في العصور السابقة، وهو أمر طبيعي، فالمجتمعات تتغير وتتطور وتكتسب صفات وأخلاقيات تتناسب مع متطلبات عصرها، لكن الطفرة العلمية الهائلة التي طرأت على عالم الالكترونيات والاتصالات و العولمة الالكترونية التي شهدها العالم منذ منتصف القرن المنصرم ومازالت متواصلة بخطوات متسارعة ماراثونية لاهثة جعلت كل الحقب والعصور المنصرمة كلها في كفة و مئة السنة الماضية في كفة أخرى، وبالتالي فالتغييرات الطارئة على السلوك والأخلاق والقـِيـَم عانت هي الأخرى من هزات ارتدادية متعددة الأوجه.

ضمن منظومة الأزمنة الغابرة كانت القنوات التلفزيونية وبرامجها خاضعة لرقابة صارمة، وإن لم يكن هدفها الرئيس الحفاظ على بنية المجتمع الأخلاقية حسب، لكنها كانت تعمل بشكل أو بآخر وفق معايير ذلك الزمان، على وقاية المشاهد والمتابع من كثير من المشاهد والصور والمواقف التي قد تخدش حياءه أو تسيء إليه أو ترعبه وترهبه، ليكون كل ما يعرض صالحا للمشاهدة العائلية. فترى المحطات تحذف كثيرا من المشاهد التي لاتتناسب مع منهجها الأخلاقي أوالسياسي، في ظل غياب

شبه تام لقنوات غير حكومية. لكن في عالم اليوم الذي ينشد التحرر من كل قيد، باتت المشاهدة مفتوحة ومتاحة لكل البرامج والأفلام والصور فضلا عن قراءة الكتب التي كانت ممنوعة من التداول معرضة للمصادرة أو الحرق، فشبكة الانترنت تفتح أمام مستخدميها فضاءً واسعا لاحدود له من المعلومات دون قيد او شرط، موقع التواصل الاجتماعي “الفيسبوك”على سبيل المثال لا الحصر، يستضيف صفحاتٍ لمعظم قنوات التلفزة والمواقع الإخبارية والفنية والترفيهية والاجتماعية والاقتصادية وحتى الإباحية وسواها، وكلها تضع على الصفحة الرئيسة للموقع إعلاناتها داعية المستخدمين لمتابعة هذا الخبر أو لمشاهدة ذلك الفيديو، لاسيما متابعة ما يتصدر اهتمامات وسائل الإعلام، التي يمكن أن يكون احد الأصدقاء قد شاركها (share) في وقت سابق مما يجبرك على قراءة عناوينها أو ألاطلاع عليها دون قصد أو رغبة مسبقة احيانا. وقد استغل تنظيم داعش الارهابي هوس البشرية بالمعلوماتية وتقنيات التواصل عبر الانترنت بفضائها المفتوح لكل من هبّ ودب أبشع استغلال، إذ راح ينشر، ضمن خطته لترهيب أكبر عدد من البشر، تسجيلات فيديو تصور جرائمه بحق من يقعون أسرى لديه، بدءا بذبح الصحفيين الامريكيين ثم اليابانيين فضلا عن مشاهد مروعة اخرى تظهر طفلا داعشيا يردي بالرصاص متهمين بالتجسس لروسيا، ناهيك عن تلك التي تصور الرجم حتى الموت لنساء متهمات بالزنى، خارج نطاق جهاد النكاح، وآخرين يلقون من اسطح البنايات، حتى طلع علينا التنظيم أخيرا ببدعة جديدة ألا وهي الإعدام حرقا كما حصل مع الطيار الاردني معاذ الكساسبة الذي مازالت ملابسات سقوط طائرته ووقوعه بيد داعش ومن ثم حقيقة حرقه غير واضحة المعالم، وتتالت المشاهد المرعبة وصولا الى ذبح (21) مصريا قبطيا في ليبيا وربما غدا الاعدام رميا بالرصاص أهون الشرور.

مع تأكيد كثير من علماء الدين الإسلامي على براءة الإسلام من مثل هذه الأفعال الوحشية الدنيئة التي يرونها مسيئة للاسلام تعمل على تشويهه وحرفه عن مساره التسامحي الاصيل، وبغض النظر عما إذا كانت هذه المشاهد (الذبح والحرق)

حقيقية ام لا، فكثير من المتخصصين في عالم الخدع السينمائية يشككون في صحتها، ورغم السيل العارم من موجات الشجب والإدانة والاستنكار الذي فاض هنا واندلق هناك كونه لا يشبع من جوع ولا يغني من فقر، فالخوف من آثارها لايقتصر على بث الرعب في نفوس الناس وترهيبهم وتصوير التنظيم بأنه المارد القاهر الذي لايشق له غبار الساحق الماحق المبيد، بل الجزع الاكبر يتمثل في أثر مثل هذه المشاهد الدموية وسواها على وجدان ونفسيات وضمائر أجيال قادمة تتربى على مناظر القتل وجز الاعناق وحرق الاجساد، والطامة الكبرى انها متوفرة لكل الاعمار على مواقع الشبكة العنكبوتية، لاتحدها رقابة حكومية ولا تردها توجيهات أبوية، ناهيك عن مشاهد أشد فظاعة لدماء تغسل الاسفلت وأشلاء بشرية متناثرة قد تشاهدها بأم العين أو تعرضها عليك قنوات الاخبار، بعيد أي انفجار أو حادث ارهابي وهو أمر غدا شائعا في كثير من البلدان.

على صعيد ذي صلة، هذه المشاهد المرعبة وسواها لاتشكل خطرا على العقول والنفوس البشرية حسب، بل خبراء من خطر داهم على عقول الحواسيب فضلا عن حسابات مستخدمي الانترنت، بسبب ارسال قراصنة الانترنت روابط “اختراق” بعناوين تجذب المستخدمين الباحثين عن فيديو لعملية إعدام الكساسبة على سبيل المثال مسبوقة بعنوان جاذب: (شاهد قبل الحذف) وغيره الكثير من العناوين المشابهة، محاولين اختراق بيانات مستخدمي الانترنت وتدمير حواسيبهم.

إن كان البعض يعتقد أن كثيرا من الارهابيين العراقيين هم من نتاج ماكان يعرف بفدائيي صدام او اشبال صدام الذين كانت مشاهد تدريباتهم في حينها وهم ينهشون بعض الحيوانات ويقطعونها بأسنانهم والدماء منها تسيل، تقشعر لها الابدان، فما بالنا والحال اليوم؟ مع حالة الاعتياد المقيتة وعدم المبالاة البغيضة وخدر الضمائر المريبة إزاء ما يجري من حولنا؟ وأي نوع من الأجيال يعده الواقع المفروض لبلادنا ليكونوا قادة المستقبل وصناعه؟ وعن اي بطولات أخلاقية ودراسية وعلمية، سيحدث الأباء ابناءهم؟ وهل ستبقى صورة الاب المثالي كملاك بجناحين ام ستغدو

لشيطان بقرنين يذبح ويحرق ويدمر؟ لتعود بعد كل هذا لتسأل نفسك: ماذا يخبئ لنا الغد؟ ماذا ينتظرنا بعد؟