الفضاء،بات ضيق جداً،بعد أن أصبح كل شيء يتحرك فيه،مرصوداً ومعلوماً وتحت سيطرة أميركا وبقية الدول الكبرى،بفعل الاقمار الاصطناعية..فَلَمْ يعد ساحة مفتوحة لمن يشاء أنْ يلعب،في الوقت والمكان والشكل الذي يرغب، من غير أنْ يكون لتلك القوى إرادة بذلك .
وفق هذه الصورة،ما عاد هنالك مكان يتسع إلاّ للمحترفين،ولامجال للهواة ولا الأنبياء ولا الثوار ولا المصلحين ولا المجانين،فمن المضحك بعد الآن أن نؤمن ببقاء العمل السياسي السري محتفظاً بسريته. لأنَّ كل حركة تجري تحت الارض وفوقها وخلفها باتت مرصودة ومكشوفة بأدق تفاصيلها.
أيضا لم يعد الامر مقتصراً على معرفة مايجري من أحاديث خاصة وحميمة تدور في غرف نوم الملوك والرؤوساء أوفي قاعات اجتماعاتهم،بل تجاوز الأمر الى مايجري من تخطيط وتدريب في الكهوف والمغاور المحشورة في عمق الجبال والصحاري المترامية الاطراف .
فهل يعقل بعد هذا،أن يفلت من الرصد رتل من السيارات المدججة بالمسلحين،وهو يقطع عشرات الكيلو مترات من اراض صحرواية مكشوفة ليدخل بعد ذلك مستعرضا قواته في شوارع اكبر المدن العراقية واكثرها اهمية في دوامة الصراع الطائفي/ السياسي الدائر في العراق،من غير أن تكشفه عشرات الاقمار التجسسية التي تدور في سماء العراق لرصد أي شيء يتحرك على كل سنتمتر من هذه الارض وفي هذا الفضاء !؟ .. كيف يعقل هذا ! ؟
وهنا لابد أن تطرح عدة تساؤلات من وحي الظهور المفاجىء وبشكل علني لأبو بكر البغدادي قائد تنظيم دولة العراق والشام ،وهو يلقي خطبة الجمعة في الجامع الكبير بمدينة الموصل يوم 5/ 7 / 2014 :
مالذي دفعه لأن يظهر أمام المَلأ،بهذه الصورة المتقنة الصنع من حيث الهيئة والحضور والتصوير وفي هذه المرحلة من الصراع المسلح الدائر بين تنظيم داعش الذي يقوده وبين الدولة العراقية ؟
هل الظهور مبعثه،شعور بالقوة ومباهاة بها،نتيجة ما تحقق من تقدم على الارض ؟
أم هو شعورٌ بالضعف،خاصة إذا ماأخذنا بنظر الاعتبار توقف الزحف السريع الذي كان قد ابتدأ به تنظيمه في 10 / 6 / 2014 مع سقوط مدينة الموصل في قبضته ؟
أو قد يكون سخرية واستهزاءً بالدولة العراقية بكل أجهزتها الامنية والعسكرية من قبل البغدادي،عندما وجدها تحاول أن تستعيد قدرتها في المبادرة العسكرية بعد أن أستفاقت على نفسها من هول الصدمة التي كانت قد اصابتها على اثر سقوط الموصل ؟
ولعل البعض يرى فيه،مشهد توديعٍ أخيرٍ،لدولة الخلافة الاسلامية، التي أعلن عنها البغدادي ؟
أو ، قد يكون ماشهدناه من دلالات تكثفت في صورة باتت جزءاً من التاريخ،ماهي إلاّ اشارات ارسلتها مفارقة درامية ــ كما هو الحال في بنية التراجيديا الاغريقية ــ على اثرها ينقلب مصير البطل رأساً على عقب؟
ولربما يكون،مشهد ـ كوميدي ــ يأتي توقيته عادة في ذروة الاحداث، وهوليود تمرّست عبر تاريخها الطويل في صياغته على هذه الشاكلة عبر سيناريوهات مصنوعة بحرفية عالية ؟
ومن المحتمل أن يكون ماشهدناه،ليس سوى مشهد ـ حقيقي ــ فوجئنا به وسط ركام من مشاهد سياسية مزيّفة لطالما غرقنا في ضحالتها ؟
وليس مستبعدا ًأن تكون ــ مساحة الزّيف ــ الذي وصل اليه مشهدنا السياسي كانت نتيجتها ــ بلا أدنى شك ــ مثل هذا المشهد البائس ؟