لاشك أن السعي في مناكب الأرض واجب، كان قد كُلف الإنسان بأدائه مذ خلقه بارئه، ولاشك أيضا أن المثابرة والعمل الدؤوب هما ديدن الإنسان العصامي، والأخير هذا لن تأتيه ثمار سعيه على بساط الراحة أبدا، إذ كما قال ابو تمام:
بصرت بالراحة الكبرى فلم ترها
تُنال إلا على جسر من التعب
فعادة ما تكون طرق النجاح محفوفة بمخاطر ومعوقات كثيرة، ليس أولها أرضية الانطلاق، وملاءمتها للشروع بالسعي من عدمها، كما ليس آخرها التحديات المرافقة، والتي بدورها تنجم عن مصادر عدة، غالبا مايكون الإنسان الطرف المؤثر والفاعل فيها.
أسوق بدايتي هذه وأنا أستطلع تأريخ العراق الحديث، وأٌقصد بتأريخه الحديث السنوات التي أدركت فيها مايدور حولي، وتحديدا منذ سني السبعينيات، حيث لا شاهد يروي لي الأحداث، ولا سامع ينقل ما سمع، ولا قارئ يسرد لي ما اطلع عليه، فأنا الشاهد والسامع والقارئ بحواسي جميعها. ومن بين القضايا الساخنة التي جالت خاطري، قضية كنت قد نويت الخوض في غمارها، والإبحار في حيثياتها وتفاصيلها الدقيقة، وأخرجها -بحكم مهنتي- الى مساحة مرئية، لتكون عملا صحفيا وإعلاميا يحمل بين طياته رسالة، لعل آذان من أقصدهم بها تتفتح وتصغي لما أقول، وساعتها أقول باعتداد وثقة عاليين أن كلماتي أسمعت من به صمم..!. أو لعل الغشاوة تزول عن أعينهم، فيرون ما أطرحه، وسأقول أيضا حينها؛ أنا الذي نظر الأعمى الى عملي..!. وليس قولي هذا تقمصا لمن قاله قبلي منذ مايقرب الألف ومئة عام، لكنني أطمح ان يصل صوتي الى من بيدهم زمام أمور البلد، لاسيما وأنا أعاني ومعي أكثر من ثلاثين مليون عراقي من سوء إدارتهم مفاصل البلد برمتها. كما لم يكن مقصدي بعد تحقيق هذا سوى نيل استحسان القراء والمتابعين، لجهودي المبذولة في إخراج القضية مخرجا ينفض عنها تراب الاهمال والنسيان.
تلك القضية هي قضية شخصيات عراقية، عاشت وذاع صيتها -علميا او ثقافينا او فنيا- في الربع الأخير من القرن المنصرم، والتي شاء قدرها أن يكون حاكم العراق آنذاك سلطان جائر، فرغم لمعان تلك الشخصيات وألق ما تنتجه من أعمال، إلا أنها أضحت كمرآة في بيت أعمى، استوت عنده الأنوار والظلم. أو كانت كجوهرة او درة ساقتها الأقدار الى يد فحام، وللقارئ التصور فيما يفعل الفحام بالدر، كما يقول شاعر الأبوذية:
الدهر مثل الرسالة دوم ينباع
سطرني وخله دمع العين ينباع
حسافة الدر على الفحام ينباع
يحرگه ويخلي احواله ردية
لكن هيهات، فليس كل الدرر مطواعة بيد الفحام، ولنا في كثير من الشخصيات العراقية مثل حي في هذا، إن ذكرت بعضهم فإن المقام في مقالي هذا يضيق بهم -رغم سعته-. فلقد كانت حقبة السبعينيات ولادة عقول عطاءة، تنافست معها النفوس في السمو والارتقاء، فكان الناتج
علما ينتفع به، أو فنا بقي كأنشودة جارية، أنار بها الفنان دروبا لم تكن تعرف النور لولا إبداعه الوهاج، أو ثقافة تدعو له الأجيال على تقديمها كمعين لاينضب.
ومن ذاك الجيل والجيل الذي لحقه، إبان حكم النظام السابق، عاش من عاش في مغارب الأرض ومشارقها هربا من سطوة الجور والقمع، فامتد عمره الى يومنا هذا، شاقا طريق التفوق والتألق في بلدان غير بلده، ومنهم من قضى نحبه ورحل عن دنيانا، تاركا إرثا تنهل منه الأجيال تلو الأجيال. وفي كلا الحالين، فإن من المؤسف حذو حكام مابعد السقوط في طرد الكفاءات، الحذو ذاته الذي كان ينتهجه حاكم ماقبله، بدل أن يغيروا نهجهم ويتبعون سياسة جاذبة لهم، مستقطبة إياهم لخدمة بلدهم، واللحاق بركب الأمم التي سبقته بكثير بل كثير جدا.