-1-
من أخطر الأمراض وافتكها شحُ النفس بالمال ، وحرصها الشديد على الاحتفاظ به بعيداً عن إنفاقِهِ في مواطنه المشروعة والممدوحة …
ويُخيلُّ للشحيح أنَّ الإمساك بالمال ، هو (ربحٌ) محض ،لا تلحقه أية خسارة..!!
وهذا وهم كبير ..!!
انّ الشحيح الذي يكتنز الأموال ويدخرُّها دون انفاق ، يحرم نفسه من أنْ يكون مَصَبّاً للعطاء والصلة من قبل الاذكياء من الأثرياء .
انهم حين يرونه مُقَتِرّا على نفسه يحتقرونه ، ويحجبون عند الأعطيات والصلات والهِبات …
هكذا يصل الى الحرمان .
-2-
ومن طريف ما جاء في هذا الباب ، قصة (جعفر بن يحيى) البرمكي مع ” الأصمعيّ ” ، حيث قيل :
إنّ جعفر بن يحيى ركب يوماً وَأَمَرَ خادماً له أنْ يحمل معه ألف دينار ، وقال لخادِمِه :
سأجعل طريقي على الأصمعي ،
فاذا حَدَّثَني فَرَأَيتِنَي ضحكتُ ، فاجعلها بين يديه :
ونزل جعفر عند الاصمعي ،
وبادر الاصمعي يحدّثه بكل أعجوبة ونادرة تُطرب وتُضحك ، والبرمكي تَفْتَرُ شفتاه عن ابتسامة فضلاً عن ضحكة .
وحين خرج جعفر من عند الأصمعيّ ، قال له خادمه :
رأيت منك عجباً ،
أمرتَ بألف دينار للأصمعي ، وقد حرّكَكَ بكل مُضحِكَة ، وليس من عادتك أن ترّد الى مالِكَ ما قد خرج عنه ،
فقال له جعفر :
ويحك !!
انه قد وصل الى الاصمعي من أموالنا مائة ألف درهم قَبْل هذه المرّة ،
وحين دخلتُ دارَهُ ،
وجدتُ (كلَّ شيء عنده رَثّاً )
-من الثياب الى المقعد الوسخ – ،
وأنا أرى أنَّ لسان النعمة أنطق من لسانِهِ ،
وانَّ ظهور الصنيعة أمدح وأهجى من مدحه وهجائه ،
فعلى أي وَجْه أُعطيه ، اذا كانت الصنيعة لم تَظْهر عنده ، ولم تنطق بالشكر عنه ؟
-3-
إنّ أمثال الاصمعي، البخيل المُقتّرِ على نفسه، كثيرون ، ولكنّ أمثال جعفر بن يحيى قليلون .
إنّ الاصمعي لم يكن متقشفا زاهداً بالمال، بل كان من أشد الناس حرصاً على تجميع المال .
والفرق بين الزهد والحرص كبير للغاية
إنّ الاصمعي كان قد جعل الثياب والأثاث، شِباكاً يصيد بها أموال الأثرياء ، الذين تنطلي عليهم الحيل …!!!
-4-
إنّ العقل هو من أعظم النِعم الإلهية التي مَنَحها الله سبحانه للانسان ، فلماذا يُقدمُ على تعطيله اذن ؟!
انه لابُدَّ ان يتعامل مع الأشخاص والأشياء على ضوء معطياته .
وعندها سوف تتغير الكثير من الأمور ، وتنكشف الحقائق ….
وهنا تكمن العبرة .