مفهوم الاصلاح لم يرتقي الى المستوى التنفيذي المطلوب وبقي عالقاً في دائرة الاعلان السياسي لترقيع صورة الفشل الذي صاحب الاداء الحكومي والذي على أثرهِ تعالت الاحتجاجات المطالبة بتوفير الخدمات وأقالة المحافظين وألغاء مجالس المحافظات وكانت تلك فرصة جوهرية لتعديل مسار تلك المؤسسات وأبعادها عن قبضة الاحزاب والكتل المهيمنة لتقويض نفوذها والبدء فعلاً في تحقيق واقع ملموس ولو لجزء من الاصلاحات , وبالتالي كسب تأييد الشارع لشخص رئيس الوزراء كونه على رأس السلطة التنفيذية , ولكن لتصورات خاطئة تعتمد على مكابرة سياسية لشخصيات تعتقد بأنها تمتلك حنكة سياسية هو ما أدى الى تراجع الاداء الحكومي باتجاه معاكس للأصوات المطالبة بالاصلاح .
وخوفاً من تداعيات الازمة الاقتصادية وتحسباً لما يتبع ذلك من أنهيار للمنظومة الحكومية أستمر الاعلان السياسي بالترويج لمفهوم جديد بلباس التغيير الجوهري معتمدا على التكنوقراط والذي سيختص على ما يبدو بالكابينة الوزارية أو بجزء منها تاركاً تلك الخلفية المتراكمة طيلة الحكم بعد 2003 والتي أعتمدت مبدأ التقاسم والتحاصص في توزيع المناصب على كل مفصل من مفاصل المؤسسات أو المديريات التابعة للحكومة , وأكثرها تأثيراً هو منصب المحافظ الذي أصبح من الصعب توصيفه وظيفياً , فعلى الرغم من أنه يعني بالجانب التنفيذي البحت للواقع الخدمي للمدينة وكيفية أستغلال المردوات المالية المتحققة كموازنات في الجانب التشغيلي أو الجانب الاستثماري , ألا أننا نرى أن ذلك المنصب يُولد من تحالفات وفق مصالح ومساومات وأتفاقات ما بين الكتل والاحزاب التي شغلت مقاعد مجلس المحافظة , وتبعاً لذلك سيكون المنصب لايمت بأي صلة بمفهوم التكنوقراط والذي يكون أساس تعاملهِ مع المهنية والخبرة ولايستطيع أداء مهامه الا بحرية تامة وأن يكون ولاءه المطلق للخبرة والتعامل والاداء المهني , وعلى النقيض من ذلك نرى أن المحافظ يختار طاقمه وفق التحالف الذي بموجبه أصبح محافظاً , فيكون له نائبان أو أكثر وبصلاحيات كبيرة ومعاونان أو أكثر من الكتل المتحالفة معه , وعندها يبدأ الترهل الوظيفي في ديوان المحافظة من مكتب المحافظ الى مكاتب النواب ومعاونيه وأقسام العقود والتعاقدات والاجراءات والمباني وأدارة المشاريع وحلقات زائدة تستحدث وفقاً للأتفاقات التي تتم داخل قاعات مجالس المحافظات .
والمحاصصة أخذت تُعمق الفشل في الاداء الحكومي بتوزيع منصب المدير العام تبعاً للوزارة التي تمتلكها أحدى الكتل أو الاحزاب المشاركة في حكومة المركز , وهذا أدى الى تقاطعات في الصلاحيات وعدم وجود تنسيق منهجي لمنظومة تخطيطية تكاملية داخل المدينة وحتى على مستوى العلاقة مع المركز , وبدلاً من أن يقوم المحافظ بتفعيل تلك المديريات وفق برنامج واليات عمل موحدة , فعلى العكس تماماً أخذ المحافظون بتهميش تلك الدوائر وحجز كافة المشاريع في دائرته المركزيه المتمثلة بديوان المحافظة وأصبح له سلطات دكتاتورية على جميع المفاصل الخدمية الحيوية التي تُمكن المدينة من أن تنهض وفق المتطلبات التطويرية والانمائية , وأستغل تلك السلطة لأستمالة الجمهور مناطقياً وعشائرياً وأحياناً دينياً وأعتمد التنفيذ على رؤى أرتجالية من شخص المحافظ والذي عادة ما يكون أختصاصه المهني وخبرته لاتتوافق مع المنصب كأن يكون طبيباً ولهذا أبتعدت كل المحافظات عن منهجية التخطيط والتنظيم وأصبحت المحافظة تسمى من قبل الجمهور بأنها تابعة للحزب الذي ينتمي اليه المحافظ نفسه وتعدى ذلك الى المديريات وأصبحت توصف وكأنها مملوكة لحزب المدير الذي يدير تلك المديرية .
ونتيجة لدستور كُتب وفق مبدأ ( كل من يحوش النار لخبزته ) وتبعاً لفقراته التي يعتبرها البعض مقدسة فأنه لايمكن أقالة المحافظ من منصبه الا من قبل مجلس المحافظة بعد أستدعاء وأستجواب وقناعات الاعضاء ثم تصويتهم وبذلك يكون التحالف الذي سنمه المنصب هو من يكون بيده القرار ولذلك لايمكن وضع المحافظ في دائرة المسائلة , وحتى أذا تم التوافق على أقالتة فسيكون المحافظ الجديد من نفس الكتلة أو الحزب الذي ينتمي اليه سلفه , وهذا بعيد كل البعد عن أي مشروع سياسي يدعو الى حكومة تكنوقراط لأن الوزير سيكون أمام حواجز وعقبات لايمكن النفوذ منها الى أي نجاح يحسب اليه , وبدلاً من أنشغاله بوضع البرامج وفق الاسس التخططيطية والتخصصية لوزارتة سيكون منهمكاً في كيفية التخلص أو التعامل مع القاعدة الغير مهنية التي ترسخت في مؤسسات الدولة المختلفة , لذا سيكون على رئيس الوزراء أن يوقف حالاً نقل الصلاحيات من الوزارات الى المحافظات وفق قانون 21 والتي تصر على تفعيله الاحزاب التي تسيطر على المحافظات المختلفة , وأن تكون عملية التغيير الجوهري في المحافظات مساندة ومسايرة للتغيير الوزاري المرتقب لأيجاد بيئة ملائمة لتقديم الخدمات وبشكل منسجم مع الواقع الاقتصادي وحسب المستجدات , ووفقاً لذلك يمكن أن تمتد أواصر للثقة بين الجمهور الغاضب والحكومات المحلية على أقل تقدير وهنا ستسجل نقطة في بحر لصالح الاداء الحكومي العام , وسيصبح هذا تغييراً جزئياً ليُشمل بعد ذلك بمراجعات للتركيبة البنيوية للمنظومة الحكومية , وعكس ذلك يكون كأنما نحن في العاب سياسية تتغير شخوصها ولا تتغير الاستراتيجية التي تنطلق منها , وسيبقى ذلك مرهوناً بجدية الطرح ومدى شجاعة وقوة المتصدين لها وأبتعادهم بشكل أساسي عن دعايات وأعلانات سياسية ساذجة كأعلان اللعبة التكنوقراطية الوزارية الاخيرة .