طيلة عقود من الزمن، لم تشهد العلاقات العراقية التركية مسارا ثابتا ومستقرا، بل ان حالة المد والجزر، والتجاذب الحاد في بعض الاحيان، والخفيف في احيان اخرى، كانت هي السائدة والمهيمنة على مجمل واقع علاقات العراق مع جارته الشمالية المثيرة للجدل في مجمل مواقفها وتوجهاتها .
واذا كانت المشاكل والازمات بين دولة ما مع اخرى قد تكون مجاورة لها او بعيدة عنها نوعا ما، تتمحور حول ملفات امنية، او اقتصادية، او سياسية، فأن تشابك وتداخل الملفات المختلفة بين بغداد وانقرة، كان ومازال يلقي بظلاله الثقيلة على المشهد العام، واكثر من ذلك يعرقل حلحلة العقد المستعصية، وفك الخيوط الشائكة.
وتزامنا مع زيارة رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي الى تركيا في هذه الايام، على رأس وفد حكومي رفيع المستوى مؤلف من وزراء ومستشارين وخبراء بأختصاصات متنوعة، تفرض التساؤلات المكررة بأستمرار نفسها، باحثة عن اجابات عملية وواقعية ومنطقية من بين طيات هذا الحراك.
وسائل الاعلام العراقية وبعض الاوساط والمحافل السياسية، ابدت اهتماما واضحا لتصريحات ادلى بها قبل ايام قلائل السفير العراقي في انقرة حسن الجنابي، اشار فيها الى ابرز القضايا التي ستطرح على طاولة النقاش بين الكاظمي الوفد المرافق له من جانب، وكبار المسؤولين الاتراك من جانب اخر، والتي حددها، باليات تأمين الحدود بين البلدين ومنع تسلل الارهابيين والعمليات العسكرية المرتبطة بذلك، وتنشيط وزيادة التبادل التجاري البالغ حاليا خمسة عشر مليار دولار، وحسم النقاط الخلافية حول تقاسم المياه، واوضاع الجالية العراقية في تركيا، وسبل تذليل المعوقات والمصاعب في اقامة افرادها وتنقلهم وسفرهم، سواء كان لغرض الدراسة او العمل او السياحة او الاقامة الدائمة.
لاشك ان السفير الجنابي، اشار الى العناوين العامة ولم يخض في التفاصيل والجزئيات، اذ ان هذه الاخيرة يمكن ان تكشف عن عمق المشاكل والازمات بين الطرفين، وعدم توفر كل الادوات المطلوبة لحلها وحلحلتها هذا في حال توفرت الارادات الحقيقية الجادة لذلك، رغم ادراك وقناعة كل من بغداد وانقرة، بأن المصالح المتبادلة والمشتركة العميقة بينهما تقتضي البحث والسعي الجاد الى تذليل المشاكل والازمات واحتوائها الى اقصى قدر ممكن.
امنيا، يبدو ملف حزب العمال الكردستاني التركي المعارض(PKK)، وكأنه عقدة شائكة ومستعصية وعصية عن الحل، باتت مع مرور الوقت تشكل صداعا مزمنا لاكثر من طرف، وعقبة كأداء في طريق كل حوار، فبينما يطالب العراق جارته تركيا، بأنهاء تواجدها العسكري على اراضيه، ذلك التواجد الذي توسع واصبحت له مظاهر دائمة، كما هو الحال مع معسكر زليكان بقضاء بعشيقة جنوب محافظة نينوى، يدعو صناع القرار في انقرة نظرائهم العراقيين الى اتخاذ الخطوات اللازمة للحؤول دون جعل الاراضي العراقية منطلقا لشن الاعتداءات على تركيا وتهديد امنها القومي، في اشارة الى تواجد حزب العمال الكردستاني في شمال العراق، وقيامه بعمليات عسكرية تستهدف الجيش التركي والمنشات الاقتصادية التركية، علما ان حزب العمال كان قد اتخذ منذ وقت طويل من جبال قنديل الواقعة عند المثلث الحدودي العراقي-التركي-الايراني معقلا رئيسا لجناحه العسكري، وفيما بعد استغل التجاذبات والخلافات داخل البيت الكردي العراقي، ومن ثم اجتياح تنظيم داعش لمساحات من الجغرافية العراقية صيف عام 2014 ليتمدد ويوسع تواجده ونفوذه في عدة مناطق، ابرزها قضاء سنجار التابع لمحافظة نينوى، وهو ما اثار حفيظة انقرة ودفعها الى تعزيز وجودها العسكري وحتى غير العسكري في شمال العراق.
ويشير خبراء امنيون الى ان تركيا، اضافة الى معسكر زليكان، فأنها تملك منذ عام 1997 قاعدة عسكرية كبيرة في منطقة بامرني -45 كم شمالي محافظة دهوك-، وثلاث قواعد أخرى صغيرة في قضاء العمادية ومنطقتي كانيماسي وسيرسي التابعة لدهوك، ويقدر عدد الجنود الاتراك المتمركزين في الاراضي العراقية حاليا بأكثر من ثلاثة الاف جندي.
مضافا الى ذلك، تقوم انقرة بين الفينة والاخرى بشن عمليات عسكرية جوية وبرية داخل الاراضي العراقية، كان اخرها ما سمي بـ”عمليات المخلب”، التي انطلقت منتصف شهر حزيران-يونيو الماضي بحجة ملاحقة عناصر حزب العمال.
ولاشك ان هذا الوضع الامني المرتبك، لايمكن القبول به، ايا تكن الاسباب والمبررات، وطبيعي يفترض انه كان من بين اولويات برنامج زيارة الكاظمي لانقرة، لان مجمل القضايا والملفات الاخرى، سياسية كانت ام اقتصادية، ترتبط بشكل او باخر بالملف الامني وما يفرضه من تداعيات وتفاعلات على الارض.
ويتفق عدد كبير من الساسة ورجال الاقتصاد والمال، على ان الارضيات الحقيقية لتعزيز وانتعاش العلاقات العراقية-التركية في الجوانب الاقتصادية والسياسية والثقافية، تتمثل في معالجة الملف الامني بطريقة مناسبة وواقعية ومرضية للطرفين.
فرغم تشكيل مجلس التعاون الاستراتيجي بين البلدين في عام 2008، وابرام العديد من الاتفاقيات ومذكرات التفاهم في مجالات الامن والطاقة والاعمار وغيرها، الا ان ذات الاشكاليات بقيت قائمة، في الوقت الذي يزود العراق تركيا بحوالي 15% من احتياجاتها النفطية، ويصل حجم المبادلات التجارية بين الجانبين الى خمسة عشر مليار دولار.
والى جانب ملف حزب العمال والتواجد العسكري التركي في شمال العراق، مازال ملف تقاسم المياه، واستحواذ انقرة على الجزء الاكبر من مياه نهري دجلة والفرات اللذين ينبعان من اراضيها يزعج العراق كثيرا، جراء الانعكاسات السلبية على واقع الزراعة فيه، وكذلك النقص الكبير في نسبة موارده وثرواته المائية.
وقبل شهور قلائل حذر النائب في البرلمان العراقي وعضو لجنة الزراعة والمياه والاهوار علي البديري من كارثة صحية وبيئية نتيجة انحسار مياه نهري دجلة والفرات، داعيا الحكومة ووزارة الموارد المائية الى “التحرك الفوري والعاجل على الجانب التركي بغية إعادة إطلاق حصة العراق المائية التي تم قطع الأغلب منها”.
وقبل هذا، كانت وزارة الزراعة العراقية قد حذرت من تأثر القطاع الزراعي في البلاد بسبب عدم التوصل إلى حل لأزمة المياه مع الجانب التركي، حيث صرح المتحدث بأسم الوزارة حميد النايف، قائلا، “أن مشكلة المياه مع الجانب التركي ليست وليدة اليوم، بل هي منذ سنوات عدة، وان المفاوض العراقي لم يكن موفقا في إبرام الاتفاقيات مع الجانب التركي من أجل تقاسم المياه”.
ومن الواضح للكثيرين ان الاشكاليات والعقد الامنية والمائية بين بغداد وانقرة، وما يتعلق بها من امور، لاتخرج عن سياق حسابات ومصالح وتحالفات واصطفافات اقليمية، وحتى دولية، تحكمها وتتحكم بها طبيعة الازمات والملفات السياسية الشائكة في المنطقة، والمواقف العراقية والتركية حيالها.
كل ذلك لم يكن غائبا او مغيبا من مباحثات الكاظمي مع اردوغان وباقي صناع القرار في انقرة. وما لايختلف عليه اثنان، هو انه اذا لم تكن انقرة قد جاءت بشيء جديد، فمن الطبيعي ان الكاظمي هو الاخر لم يعد بجديد الى بغداد، وربما تكون لقاءاته الخاصة بصديقه القديم رئيس المخابرات التركية هاكان فيدان اكثر جدوى من اجتماعاته مع اردوغان!