لعل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، متضرعا كي يستفيقاليكسي نافالني من غيبوبة، أيقظ صداها روسيا صبيحةالخميس الماضي 20 اب/اغسطس.
فقد تناقلت الوكالات نبأ ، سقوط المعارض الشهير،المنافح ضد الفساد، مغشيا عليه في الطائرة المتوجهةمن تومسك الى موسكو، ونقل مؤسس “صندوق مكافحةالفساد” الى المستشفى في غيبوبة كاملة . وهبوطاضطراري في أومسك.
على الفور برزت فرضية محاولة تصفية المعارض عنطريق دس السم في الشاي، المشروب الوحيد الذي تناوله،كما يؤكد مرافقوه، قبل صعوده الطائرة.
انتشر الخبر مثل بقعة الزيت في الماء، وظهرت شتىالفرضيات والتحليلات حول حادث ليس الاول من
نوعه، يتعرض له الحقوقي اليكسي نافالني المعروفببرامجه المرئية في كشف الفساد والفاسدين على يوتوب ؛وبلغ عدد المشتركين فيها او متابعيها الملايين.
كان اليكسي ، فتح ملفات عدد كبير من المسؤولين ورجالأعمال ، اتهمهم بالفساد، والنصب، واستغلال المنصب،والتحايل.
ولم يفلت من عدسات برنامجه الشعبي، الا الرئيسفلاديمير بوتين، الامر الذي دفع، بعض المشككين فينزاهة
المعارض، الى الترويج لفرضية انه يعمل في المحصلةلصالح الكرملين، الذي يقدم له معلومات لا يمكن لغيرأجهزة الرئاسة الوصول اليها، في إطار صراع مراكز القوىوالمجموعات المالية المهيمنة على صنع القرار.
وغالبا، ما وجه الصحفيون أسئلة مباشرة للرئيس بوتين،حول الموقف من نشاط نافالني، الذي صدرت بحقه أحكامبالسجن مع وقف التنفيذ، بتهم الفساد والتلاعب بالاموالفي فترات سابقة ، وجرى اعتقاله او حجزه، عدة مرات، فيالتوقيف الاحترازي، بجريرة، التحريض وتنظيم تظاهراتغير مرخصة.
الملاحظ ان الرئيس الروسي؛ المعروف عنه حذره
الشديد، وانتقاء العبارات بدقة، يتجنب ذكر اسم
نافالني، والاكتفاء بالقول” هذا الشخص، عليه ان يكوننظيف اليد اولا قبل ان يتحدث عن الفساد“.
بيد ان ” هذا” حصل في الانتخابات البلدية لمدينة موسكوالتي ولد في ضواحيها على27,24 بالمئة من أصواتالناخبين العام 2013 منافسا على منصب محافظ العاصمةبميزانيتها السنوية الضخمة.
و عام 2012 أدرجت ” تايم” نافالني في قائمة أكثر مئةشخصية عالمية موثرة.
واعتبرته صحيفة” فيدومستي” المقربة من الحكومةالروسية، وفقا لاستطلاعها أبرز سياسي للعام 2017 .
أطلق نافالني في الانتخابات النيابية الاخيرة حملة” التصويت الذكي” داعيا مناوئي حزب “روسيا الموحدة” الحاكم الى التصويت لمرشحي المعارضة غيرالرسمية،وحتى الرسمية، كالحزب الشيوعي وغيره منالاحزاب التي يسخر المعارضون الليبراليون بانها تتحرك“بالريموت كنترول“.
والهدف إسقاط مرشحي الحزب الأكبر الموالي
للكرملين، وتوسيع قاعدة الاصوات المعارضة، وصولا الىبلورة حركة شعبية، كبيرة تتحرك نحو البرلمان والمجالسالبلدية في عموم روسيا.
ورغم ان بعض تيارات المعارضة الليبرالية ، انتقدت دعوةنافالني المشاركة بقوة في الانتخابات ،لانها دعت الىمقاطعتها؛ من منطلق ان نتائجها ستجير حتما لصالح
النظام، الا ان حملة” التصويت الذكي“؛حققت نتائج
ملفتة ، أوصلت مرشحين مستقلين الى المجالس ،وأكسبت مخترعها ، شعبية أكبر .
ويوما اثر يوم، صارت فتوحات نافالني لملفات الفساد علىيوتوب، البرامج الأكثر شعبية، حتى لدى ربات البيوتاللاتي يتداولن الشؤون السياسية على وقع فرم البصل فيالمطبخ، وقد يتبادر الى اذهانهن ان المعارض الوسيمالمترع
بالجاذبية، المفوه،سليط اللسان،حاد الذهن، هوالآخر،يفرم برؤوس البسطاء البصل! التشبيه الشائع، أيضافي الفولكلور الروسي.
المفارقة، ان شعبية نافالني، تتضاعف بمعادلة هندسية،بعد كل مرة، يدخل ويخرج فيها من الإعتقال الإداري الذيتتراوح مدته بين الخمسة عشر يوما والشهر.
ويستثمر المعارض، المعروف بآرائه ، الاشتراكية، وينسبحركته السياسية الى تيار ” المواطنة القومية “؛ ميلالجمهور الى برامج التحقيقات، والكشف عن الخفاياوالاسرار، فيعمد الى إعداد فيديوهات ” قناة اليكسينافالني” و ” نافالني لايف” وقد تحولت الاخيرة،الى ما يشبهالقناة التلفزيونية اليومية على الانترنت، يشارك فيبرامجها صحفيون ومحللون وناشطون، يشاطرون نافالنيتوجهاته.
وفيما تلاحق السلطات ” صندوق مكافحة الفساد” بتهمتلقي الدعم المالي من الخارج، وألغت إجازته؛ وفرضتعليه غرامات بملايين الروبلات، عمد نافالني مع نشطاءحركته الى توسيع مبادراتهم السياسية، بالتوجه الىالأقاليم التي تشهد حركات معارضة للسلطات، مثل إقليمخباروفسك في الشرق الاقصى.
وتضاعف حجم التبرعات، والاشتراكات الداعمة له، معزيادة الاعلانات على قناتي يوتوب بادارته.
في نفس الوقت جنى نافالني، على مدى سنوات نشاطهالسياسي المتصاعد، عداوة رجال أعمال ومسؤولين رفيعيالمستوى بمن فيهم رئيس الوزراء السابق ديمتري
ميدفيديف ، الذي تناوب مع بوتين على رئاسة الدولة،ويشغل الان منصب نائب رئيس مجلس الأمن الروسي.
فقد عرضت قناة نافالني، شريطا وثائقيا، يصور قصرا منيفاشيده ميدفيديف لنفسه،شبيه بقلاع القرون الوسطى معمسابح وملاعب ومزرعة خيول وغيرها من مظاهر الدعةوالبذخ.
و ناصب اليكسي العداء لرهط من الصحفيين
المعروفين، اتهمهم بالاثراء،وامتلاك عقارات خارج
روسيا، بالكسب غير المشروع.
ويقاضي نافالني عدد ممن سلط عدساته على
ملفاتهم وعقاراتهم وممتلكاتهم ، مطالبين بغرامات ماليةضخمة تعويضا عن الضرر المعنوي الناجم عن برامجهالفضائحية، الامر الذي يعزز الاعتقاد بان أطرافًا عدة،تسعى للانتقام منه، اوتصفيته جسديا.
يقول الكسي فينيديكتوف، رئيس تحرير اذاعة” أيخو
موسكفي– صدى موسكو” التي تملك شركة غازبرومالروسية 49 بالمئة من اسهمها، ان نافالني مستهدف امامن الأوليغارشية الذين انتهكت أسرارهم ، اومن بعض كبارالمسؤولين، وربما من بعض الأمنيين الذين ينظرون بعينالشك الى نشاطاته المعادية للدولة الروسية،باعتبارها،ضارة؛ تخدم أجندات خارجية .
ولا يخفي نافالني علاقاته مع المنظمات الغربية،وابتعثابنته “داريا“للدراسة في جامعة ستانفورد بالولاياتالمتحدة الأميركية.
وكان نفسه تدرب العام 2010 في جامعة ييل الاميركية،لمدة ستة أشهر ضمن برنامج ” Yale World Fellows”لتأهيل القادة.
تخرج نافالني البالغ من العمر 44 عاما، في كلية الحقوقبجامعة الصداقة بين الشعوب في موسكو عام1998.وتنقل بين عدة وظائف حكومية وفِي القطاعالخاص.
يستبعد مراقبون محايدون، فرضية الدور المباشرللكرملين في محاولة اغتيال نافالني، اذا ثبت بالفعل اناحدا دس له السم في الشاي قبل صعوده الطائرة في مطارتومسك بسيبيريا؛نظرا للعواقب السياسية الوخيمة علىسمعة روسيا.
ولان حدثا كهذا سيهز الداخل الروسي المأزوم اصلا كبقيةدول العالم بسبب تداعيات وباء كورونا الاقتصادية.
والى الان، وحتى ظهور تقرير من المستشفى البرليني،الذي يعالج فيه المعارض الروسي رقم واحد، فان وزارةالصحة الروسية تؤكد بان التحاليل أثبتت وجود كحول فيدم الكسي نافالني اثناء رقاده غائبا عن الوعي في مستشفىأومسك.
وكان أطباء المستشفى عارضوا نقله بطائرة مستشفىخاصة الى المانيا ، خوفا من إنتكاسة صحية في الجو. وتوصف حالته بانها خطيرة، لكنها مستقرة.
ومن المنتظر ان يصدر المستشفى الألماني بيانا عن اخرالمعلومات حول حالة نافالني الصحية الذي اذا وافته
المنية، فانه سيتحول الى أيقونة، واذا كتبت له الحياة،وثبت بانه تعرض الى محاولة تسميم، فان كل ملفاتالفساد التي كشفها، ستتحول في الوعي الجمعي للمتلقيالروسي المتابع لمصير المعارض الطموح، الى حركةسياسية عارمة وفق تقديرات المراقبين.
وثمة شبه اجماع، على ان آخر ما يتمناه، فلاديمير بوتين ،نهاية مأساوية لاليكسي نافالني” هذا” والذي حرصالرئيس الروسي على عدم اعتباره غريما سياسيا معادلا.
وتنم موافقة السلطات الروسية على نقل اليكسي للعلاجفي المانيا ، سواء تحت ضغط ميركل و قادة الاتحادالأوربي، او بايعاز من بوتين تلبية لنداء من يولا عقيلةنافالني؛ عن قناعة الجهات الصحية الروسية، بانه لميتعرض الى التسميم. وان للاغماء ، أسبابا صحية تتعلقبتناول الكحول، او بسبب
” هبوط حاد لمستوى السكر في الدم“. كما يصرحون.
بيد ان التقارير الروسية الرسمية ، لا تقنع أنصار ومؤيديومحبي نافالني، الذين يتابعون بشغف مشوببالقلق،مصير المعارض، المطلوب راْسه لمن كشف عنغناهم الفاحش في مجتمع، يعتبر الاثرياء لصوصا بالفطرةحتى وان لا ينتمون الى السلطة ودوائرها.