آخر ما تحتاج أن تفكر فيه المنظمات الإنسانية العالمية اليوم هو سعادة ورفاه المواطن الخليجي، فهو يعيش في سعادة لا يمكن لكل دول الاغتراب واللجوء توفيرها.
سعادة المدينة والهوية والوطن والكرامة
بينما كانت دول الخليج تفكر بتقارير المنظمات العالمية التي ذكرت مؤخرا أن عدد الفارين من الحرب الأهلية السورية إلى تركيا ولبنان والأردن والعراق ومصر تجاوز حاجز الخمسة ملايين، وأن 355 ألفا على الأقل من العراقيين فروا جراء القتال في الموصل، ونحو 400 ألف مدني محاصرين داخل الحي القديم المكتظ بالسكان حيث تدور معارك في الشوارع منذ أسابيع، فاجأتنا المنظمات نفسها بتقارير مفبركة عن اعتقال دولة الإمارات العربية المتحدة لمواطن من مواطنيها يدعى أحمد منصور.
الاعتقال كان عاديا وتحت ضوابط قانونية متعلقة بتهديد أمن الدولة بالتحريض والفتن والكراهية، وهي اتهامات قانونية من الادعاء العام كما هو معمول به في كل الدول المتقدمة.
ورغم أن الدول المتقدمة كأميركا لا توفر محاميا ولا محاكمة إلا بعد سنوات طويلة من الاحتجاز حين يكون الاتهام متعلقا بأمن الدولة، فإن الأمن الإماراتي وفر للمعتقل فرصة توكيل محام للدفاع عنه مباشرة. الأمر مثير للدهشة لأننا لا نستطيع كتابة رأينا في الموضوع أساسا، فهو أمر يتعلق بالقاضي الإماراتي ولا نعرف قراره حتى يمثل المتهم أمام القضاء.
شخصيا أثار الأمر انزعاجي لأنني كنت قد تلقيت رسالة من ناشط عراقي قبل أيام يستنجد بإيصال صوته إلى “المنظمة الدولية الخليجية لحقوق الإنسان” لأن الميليشيات الشيعية كانت قد اجتاحت مخيم حمام العليل الذي تسميه المنظمات العالمية “مركز الاستقبال” وفيه 400 ألف إنسان وقامت الميليشيات بإطلاق النار داخل المخيم، وطرد ثلاث منظمات إنسانية أجنبية وضرب بعض اللاجئين أمام أعضاء المنظمات العالمية.
كنت أتوقع أن تخرج التقارير الحقوقية بهذا الخصوص، وليس استهداف دول الخليج التي تعتبر الممول الأساسي للنشاطات الإنسانية في المنطقة، سواء في اليمن أو سوريا أو العراق، وبغض النظر عن الابتزاز السياسي الذي هو جوهر هذا التحريض والتهويل الإعلامي ضد دولة فازت لهذا العام بالمركز الأول عربيا في مؤشر السعادة.
اختلاف الثقافات
إن العالم العربي غير مستقر ويتعرض لهجمة من المتطرفين والإرهابيين، ودول الخليج تعتبر اليوم الدول الأكثر رفاها واستقرارا في المنطقة، كما أنها في مقدمة الدول التي تكافح ظاهرة التطرف، وهي دول مستهدفة من مشاريع تصدير الثورة الإيرانية وبحاجة ماسة إلى تفهم عالمي.
الذي أثار اهتمامي هو أن المنظمات الإنسانية تتعرض لموضوع معقد أحيانا في العالم العربي، وهو موضوع العائلة والمرأة دون اعتبار للخصوصية الثقافية والتاريخية. إن العالم العربي يكافح لفصل الدين عن السياسة، وهذا ممكن جدا ويؤدي إلى استقرار المجتمعات، لكن الدول العربية لا تستطيع الآن فصل الدين عن المجتمع.
إذا كان يصعب على اللاجئ المسلم الاندماج مع القيم الغربية وهو يعيش في قلب الحداثة كيف يمكن للحكومات العربية فرض هذا النوع من القيم المتقدمة والمختلفة فرضا على مجتمعاتها؟ لا مصر ولا المغرب ولا الخليج يستطيع ذلك؟
مواضيع الإلحاد الاجتماعي الصريح والحرية الجنسية قد تؤدي إلى انفجار المنطقة وتفشّي التطرف. الدول الخليجية هي مؤسسات حديثة وبراغماتية وتعرف خصوصية مجتمعاتها أكثر من أيّ منظمة ومركز دراسات أجنبي. ولكي لا يكون الخطاب عاديا أحب أن أشرح كمغترب عربي كيف أن النموذج الثقافي الغربي مختلف تماما عن النموذج العربي، ولا نعرف تماما كيف يمكن في النهاية لثقافتين مختلفتين بهذا الشكل أن تتّبعا الطريق ذاته.
إن الحياة في الغرب معقدة إلى درجة أن هناك سوء فهم حتى بالمصطلحات الأسرية. المسلم مثلا يعتبر انفصال الرجل عن زوجته “تفككا أسريا” بينما في الغرب هذا غير صحيح. الارتباط بين الجنسين متعلق بالمشاعر، وأحيانا يعيش الزوجان بنجاح مدى الحياة غير أن هذا نادر.
في معظم الأحيان يرتبط الرجل والمرأة ثلاث أو أربع مرات في حياتهما، لأن العلاقة تختلف عن الرابطة الزوجية المقدسة عندنا، فهي تخضع لمعاناة وشروط يومية كثيرة ويجب اجتياز اختبارات اقتصادية ونفسية لا تنتهي وبشكل دائم.
في كثير من الحالات تتوقف العلاقة وتنتهي وينفصل الزوجان بهدوء، الغربيون يعرفون كيف يقيمون علاقة، وكيف يرتبطون والمهم كيف ينفصلون. فهو روتين مألوف في ثقافتهم. الانفصال قضية قانونية ومالية يجري ترتيبها بالتفاهم غالبا. هذا الانفصال أو نهاية العلاقة لا يعتبر “تفككا أسريا” طالما الأم ستقوم بواجباتها تجاه الأطفال، والأب سيقوم بواجباته القانونية والأخلاقية أيضا تجاه أطفاله. عندها يصبح الانفصال حالة صحية، وكثيرا ما يجلب ذلك سعادة أكبر وتنافسا في محبة الأطفال.
بما أن البيت في معظم الأحيان من حصة صاحب الحضانة وهي غالبا للأمهات فهن الأقدر على العناية بالأطفال. يخرج الأب من البيت ويستمر في مشاركة الأم بدفع أقساط البيت إضافة إلى النفقة. هذا النموذج الغربي صعب على الشرقي فثقافته الإسلامية تمنعه. يرفض الأب حضانة أطفاله ليومين في نهاية الأسبوع لأن زوجته السابقة تحتاج الذهاب للرقص مع عشيقها. فهي تعمل كل الأسبوع وتعتني بالأطفال وتحتاج يومين لنفسها. في نظر الغربي هذا طبيعي بينما في نظر العربي هذا مرفوض وأحيانا يهجر أطفاله.
الأب الغربي يتحمل كل ذلك وفي النهاية يكبر أولاده ولا يستطيع أن يكلمهم بكلمة أو يمنع ابنته من ممارسة حياتها بالشكل الذي تختار ولا يزورون الأب إلا في المناسبات.
يحتاج الأمر إلى سنوات لتعرف بأن إخلاص الأب الكندي مثلا لأطفاله هو إخلاص للقانون والدولة. فهو يتصرف كمواطن صالح في نظر الدولة وحين يشيخ فالدولة تعتني بِه حيث يقضي أيامه الأخيرة تحت رعايتها وحنانها. رغم كل ذلك نسبة الكآبة مرتفعة وحالات الموت بين الوحيدين مرتفعة.
الشرق مختلف والحكومات العربية تستطيع حفظ الأمن وحماية السوق ولكنها لا تستطيع تغيير ثقافة الشعوب. أنظر إلى برامج أميركا الاجتماعية مثل “كيريشو” وغيرها التي اشتهرت بالفضائح الجنسية ولاقت رواجا بينهم، بينما في العالم العربي نجح برنامج جورج قرداحي “المسامح كريم” حيث تكتشف كم الشرق عاطفي ولا تستطيع السيطرة على دموعك. هناك عاطفة مختلفة بين الشرق والغرب ربما يلتقيان يوما في مزاج واحد، إلا أن هذا لا يبدو قريبا اليوم ولا يجب استفزاز الشعوب وتخريبها لمجرد الاختلاف الثقافي.
أزمة هوية
العالم اليوم يتحرك بسرعة كبيرة والشعوب تتشبث بثقافتها بدافع الخوف والقلق. يقول الفلاسفة إن الجنس البشري وصل إلى السرعة القصوى بالعلوم والتكنولوجيا. ويتوقعون اختفاء الإنسان خلال قرنين من الزمان.
كيف أن الحضارات التي عمرها 7 آلاف سنة والإنسان الذي ظهر منذ 40 ألف سنة قد يختفي نهائيا خلال 200 سنة؟ كل شيء جائز طالما أننا بدأنا القرن العشرين بالماركسية وثورات العمال، بينما اليوم مشكلتنا عدم الحاجة إلى عمال بسبب التطور العلمي. هذا تبدل كبير خلال قرن واحد فقط.
في رأيي مشكلة التطرف الإسلامي بدأت بالغرب وبالجاليات المسلمة تحديدا. العربي يأتي إلى الغرب بمفهوم الشرف والعرض والقبيلة وبمبادئ الإيمان والشرع، لكنهم قبل دخولك يوقّعونك ورقة في السفارة هي أنك تقبل تطبيق القانون الغربي عليك، وحين تدخل وتحدث مشكلة يحاولون مساعدتك وتعليمك وإذا لا تفهم يأخذونك إلى السجن.
من هنا ظهرت فكرة الشريعة. إنها طموح سياسي عند المغتربين المسلمين فلا توجد هكذا مشكلة في بلادنا العربية. الحكومات العربية وازنت بين الحداثة والهوية وتقوم بخطوات مدروسة نحو التطور الاجتماعي باستمرار. الإسلام السياسي هو أساسا صناعة غربية وأساسها احتضان الإخوان المسلمين في أوروبا وأميركا.
المزيد من المهاجرين المسلمين إلى الغرب يعني المزيد من الإسلام السياسي والتطرف. إن من مصلحة الغرب اليوم تثبيت المسلمين في أوطانهم وعدم السعي نحو زعزعة المجتمعات والدول. القنبلة التي فجرها عهد الرئيس باراك أوباما كانت “الربيع العربي” المشؤوم الذي أيقظ التطرف في الشرق والغرب وهدد السلام العالمي بتوجيه من المنظمات الإنسانية العالمية والجهات التي تقف خلفها.
الإنسان الحلبي والموصللي لن تعوضه الدنيا عن مدينته. لقد كان عنده البيت والنساء والأطفال والأصدقاء. يعيش في عالم مكلف جدا ولا يمكن شراؤه، ستكتشف بالغربة كيف أنك من المستحيل أن تشتري بيتا أو تستقر عائليا أو تكون في حنان ورعاية هذا العدد الكبير من النساء. أو يكون عندك أصدقاء مخلصون بهذا العدد الضخم. ستتحول إلى “لاجئ” عندك طعام وراتب وعمل تحت الطاولة (بالأسود) توصل البيتزا أو تنقل الأثاث وينتابك شعور غامض دائما بأنك هارب.
لا تريد الدول العربية استفزاز الهوية وتقديم هدية للمتطرفين. هناك خطة علمية تسير عليها الدول الخليجية وهي تحديث القوانين والثقافات تدريجيا من خلال التعليم والبعثات والانفتاح التجاري
ستكتشف بأن هناك مرضا اسمه الاكتئاب، مرض حقيقي وليس مزاحا. وستعرف معنى أن تكون وحيدا. ستحاول الاندماج بكل ما عندك من حقد على وطنك الأصلي. ستقفز بين نهود بيضاء ورمادية ولكنك سترتدّ إلى نفسك ككرة مرتطمة بجدار.
في كل مرة تنام وتحلم بشيء مستحيل تريد أن تتعلم السعادة في الكآبة، وهذا سيأخذ منك زمنا لتتعلمه، أن تقبل بالأشياء كما هي ولا تقاومها. أهم شيء ألاّ تعترف بذلك حين تعود إلى الشرق في زيارة. مجد الغربة والأجانب وناطحات السحاب. اسحقهم بالدبابات الأميركية الحديثة والقطارات السريعة. فالشرق مصاب بجرح كبير وإذا كشفت له ضعف العالم في الطرف الآخر ستكون كالعائد من الموت ليخبر الناس بأنه لا يوجد أمل. من المفيد أن تعتاد على النسيان ولا تتعلق بشيء. الغربة لا تحتمل الحب فهذا للسادة الذين يمتلكون بيوتا ولا يستأجرونها.
اللاجئ كالعبد المعاصر يأتي مع زوجة وأطفال وطموحات ثم مع الوقت قد يتخلّص من عائلته أو تتخلص عائلته منه. فهو لا يعرف كيف يمكن له الإجابة عن الغربة. وهنا قد ينشأ بعض الأبناء حاقدين على أهلهم وعلى المجتمع، ويكون التطرف أحيانا هو الخيار الأخطر للجيل الثاني بسبب الحالة الاجتماعية.
إذا كان يصعب على اللاجئ المسلم الاندماج مع القيم الغربية وهو يعيش في قلب الحداثة، كيف يمكن للحكومات العربية فرض هذا النوع من القيم المتقدمة والمختلفة فرضا على مجتمعاتها؟ لا مصر ولا المغرب ولا الخليج يستطيع ذلك؟ لا تريد الدول العربية استفزاز الهوية وتقديم هدية للمتطرفين. هناك خطة علمية تسير عليها الدول الخليجية وهي تحديث القوانين والثقافات تدريجيا من خلال التعليم والبعثات والانفتاح التجاري.
آخر ما تحتاج أن تفكر فيه المنظمات الإنسانية العالمية اليوم هو سعادة ورفاه المواطن الخليجي، فهو يعيش في سعادة لا يمكن لكل دول الاغتراب واللجوء توفيرها، وهي سعادة المدينة والهوية والوطن والكرامة. المواطن الخليجي يعيش في مستوى اقتصادي غير موجود في أوروبا نفسها فماذا تريد منهم هذه المنظمات العالمية؟
وما سبب هذا الابتزاز الرخيص لدول نحن كعراقيين بحاجة إليها للمساعدة في إعادة الإعمار، ووقف الخراب الذي سببته السياسة الأميركية والإيرانية في بلادنا. نحن بحاجة لدول الخليج لإنقاذنا من الديمقراطية التي بسببها تحترق مدننا ويهرب أطفالنا وتحترق فتياتنا منذ سقوط بغداد وحتى اليوم.
نقلا عن العرب