19 ديسمبر، 2024 1:13 ص

ماذا تريد فرنسا من بلد الأرز ؟

ماذا تريد فرنسا من بلد الأرز ؟

بعيدا عن فرضية المؤامرة وكل الاحتمالات التي تشير إلى أن انفجار بيروت الأخير مفتعل، وقبل طرح سؤالنا المشروع: ” ماذا تريد فرنسا من لبنان؟” علينا أولا وضع الأمور في ميزانها الحقيقي اتجاه هذا البلد الصغير الحجم والكبير في معاناته التي كلما قلنا لاحت بوادر الحل فيه تتفاقم المشاكل مجددا بسرعة الضوء، وكأنه قدر على الشعب اللبناني تاريخيا ومستقبلا هذا القدر المحتوم.
فلبنان بلد يعاني ملحمة طويلة من الفساد والطائفية العميقة الجذور، والتي ألقت بظلالها على اقتصاد البلد، إذ يعد لبنان ثالث أكثر دول العالم مديونية بعد اليابان واليونان في عام 2019 حسب احصائيات البنك الدولي، حيث ارتفع الدين العام إلى 86.2 مليار دولار أو أكثر من 152٪ نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي، وقد احتل المرتبة 137 من بين 180 دولة وفقا لمؤشر مدركات الفساد لعام 2019 الذي نشرته منظمة الشفافية الدولية، كما أن البلد يعتمد على الواردات، والاقتراض الحكومي المفرط، ناهيك عن فشل الدولة في حل عديد الأزمات على غرار أزمة النفايات في بيروت عام 2015 و باءت جميع الإصلاحات التي توعدت بها الحكومة بعد الاحتجاجات الأخيرة المناهضة للطائفية بتاريخ 17 أكتوبر 2019 ، بالفشل، من جهة تفاقم عدد اللاجئين السوريين في لبنان الذي وصل حسب الاحصائيات الحكومية إلى 1.5 مليون شخص مثل عبئًا إضافيًا للدولة اللبنانية، كما تعاني الفروع الحكومية والقطاعات العامة من الرشوة التفاوضية واختلاس الممتلكات والمحسوبية وشراء الأصوات، كان آخرها الغاء الحكومة الحالية منصب الوزير المسؤول عن مكافحة الفساد، وبذلك يمكن القول أن الإدارة الجديدة التي تظهر جليا موالاتها لحزب الله تمر بمرحلة اقتصاديه وإنسانية معقدة بما يعرض نصف الشعب اللبناني لخطر الفقر.
أما على صعيد النظام السياسي، نحن نعلم أن النظام اللبناني يقوم على أساس طائفي يرجع إلى اتفاقية الطائف لعام 1989 ، والمعروفة باسم وثيقة الوفاق الوطني، حيث يوجد في لبنان ما يقارب 18 طائفة دينية مختلفة، وبالتالي تعود جذور الاضطرابات السياسية في لبنان إلى نهاية الحرب الأهلية، وقرار تقاسم السلطة من خلال المحاصصة الطائفية، وبغض النظر عن طبيعة الحزب السياسي، لا يوجد تنظيم وشفافية، ومساءلة في لبنان، وبالتالي انفجار الميناء ماهو إلا فيض من غيظ لحقيقة قاتمة في هذا البلد تعكس حجم المحسوبية والفساد.
فماذا عن أبعاد الموقف الفرنسي وفرضية الاستعمار الناعم في لبنان؟
لا شك إذا حللنا الموقف الفرنسي، وهذه السياسة الفرنسية الناعمة، فإنها لم تأتي من فراغ، فالعلاقات الفرنسية اللبنانية ليست وليدة اليوم، بل لها جذور تاريخية عميقة لا يسعنا المقام عرضها، فما يهمنا أكثر العودة إلى تحليل تصريحات الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون على إثر زيارته الأخيرة إلى لبنان بعد الانفجار الذي حدث في بيروت في قوله ” سأتحدث مع جميع القوى السياسية لأطلب منهم اتفاقية جديدة، أنا هنا اليوم لأقترح عليهم ميثاقًا سياسيًا جديدًا” بطبيعة الحال هذا التصريح ليس مفاجئا، فقد سبق أن طالبت فرنسا السياسيين اللبنانيين بضرورة إجراء إصلاحات لمعالجة الوضع المتردي في البلاد في 25 جانفي حينها قال الرئيس إيمانويل ماكرون ” إن بلاده تأمل في أن تعمل الحكومة اللبنانية الجديدة على تحقيق آمال الشعب من خلال تنفيذ الإصلاحات التي تم التعهد بها خلال مؤتمر سيدر 2018 وهذا ما أشار إليه الدبلوماسي جيرار أرو- المندوب الفرنسي السابق لدى الأمم المتحدة- “أن اجتماع سيدر الذي عقد في أبريل 2018 ، أين تم وضع أكثر من 11 مليار دولار على الطاولة للحفاظ على الكنز الذي هو لبنان في المنطقة وفق شروط فرنسية، منذ ذلك الحين لم تتوقف فرنسا عن مطالبة اللبنانيين باستيفاء هذه الشروط” ، وبالتالي تتوضح ماهية طبيعة الإصلاحات التي يطالب بها ماكرون النظام اللبناني، وهي ضرورة انشاء نظام لا يخضع بأي شكل من الأشكال إلى سيطرة حزب الله، ودليل جزمنا بهذا القول، ما تم الكشف عنه في الموقف الفرنسي عندما رفض لو دريان وصفها بـ “حكومة حزب الله”.
و طالما أن فرنسا ستقود قاطرة تنسيق المساعدات الدولية، والأوروبية إلى لبنان – من خلال دعوتها إلى مؤتمر المانحين لمساعدة لبنان- فهذا مؤشر آخر يؤكد عزم فرنسا على فرض أجندتها رغم نفى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أنه “لا يسعى لشد الخيوط في لبنان وإحياء نفوذ فرنسا في الحقبة الاستعمارية على بلد يعاني من انفجار”، بالمقابل تؤكد بقية التصريحات على أن “فرنسا لن تترك لبنان أبداً، ولن تتخلى عن لبنان واللبنانيين، وأن” قلب الشعب الفرنسي لا يزال ينبض على نبض بيروت ” و أنه جاء إلى هنا ليظهر دعم الأمة الفرنسية للشعب اللبناني، وأن المساعدات الفرنسية لن تذهب إلى “أيدي الفاسدين” بل سيسعى إلى اتفاق جديد مع القادة السياسيين في لبنان.
ويأتي التصريح الآخر للرئيس ماكرون “إنها أزمة سياسية وأخلاقية واقتصادية ومالية ضحيتها أولاً الشعب اللبناني وتفرض ردود فعل سريعة للغاية، وبالتالي ، بالنسبة لي هذه الزيارة هي أيضًا فرصة لحوار صريح، و مطلب أيضًا على القوى السياسية والمؤسسات اللبنانية، وأعتقد أنه لا يمكننا اليوم الاستغناء عن حوار الحقيقة هذا ، وستكون الساعات القادمة مهمة بالنسبة لي أيضًا، وأخيرًا، أردت أيضًا أن ألتقي بالمجتمع المدني والكتاب والمثقفين ورجال الأعمال والصحفيين ليكون لي صوت آخر ونظرة أخرى على لبنان المعاصر، وأزمته وأن أكون قادرًا أيضًا على تبادل الآراء حول الحلول ومقترحاتهم وطريقتهم في رؤية تحديات اللحظة” ليعبر التصريح عن أبعاد مهمة تحملها زيارة ايمانويل ماكرون الى لبنان، أهمها:
اعادة ترتيب دور النخب الفرنكوفونية في لبنان مستقبلا، حيث البعض دعا إلى انتداب فرنسي جديد، وهو بدا جليا من خلال العريضة التي تم توقيعها من قبل ثلة لا تمثل كل الشعب اللبناني، والتي تدعو إلى “عودة لبنان إلى الانتداب الفرنسي للسنوات العشر القادمة،و هذا ما تنبئ عنه عبارة ” لبنان المعاصر” الذي لا شك سيحمل تغييرا جذريا سواء على المستوى الداخلي، أو الإقليمي وهو ما يعزز فرضية ” لبنان على أنه شبه محمية”.
ستستغل فرنسا أيضا غضب الشعب اللبناني ومطالبات اسقاط النظام، لوضع مصير حزب الله على طاولة المفاوضات والشروط الفرنسية والدولية.
الأكثر من ذلك فرنسا تتحكم منذ سنوات عبر مؤتمرات سيدر في تكييف الشروط الأوروبية لمساعدة لبنان، وهو ما يعزز الأجندة الفرنسية السياسية والاقتصادية.
ستظل باريس تفرض توجهاتها على قرارات الأمم المتحدة في مجلس الأمن الخاصة بلبنان، مقابل نظام لبناني سياسي مشلول، وهذا يعزز الموقف الفرنسي في أي مشروع فرنسي جيوسياسي في الشرق الأوسط من بوابة لبنان، وهو ما لمح إليه عالم السياسة فريديريك إنسيل قائلا: “إذا كان جميع رؤساء الجمهورية الخامسة قد عبروا عن صداقة حقيقية للبنان، فإنهم لم يفعلوا ذلك أبدًا بهذه القوة، بهذه السرعة و مثل هذه الشروط” .
في ختام مقالنا مهما كانت الاحتمالات والفرضيات حول خلفية زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والموقف الفرنسي ازاء ماحدث في لبنان، فإننا نجزم أن هناك أجندة فرنسية ستتضح معالمها أكثر في المستقبل القريب، ويعضد هذا الطرح العديد من المقالات التي نشرت في الصحف الأوروبية منها المقال الذي نشرته صحيفة لاريبوبليكا الإيطالية تحت عنوان “اللعبة الكبرى لرئيس الدولة الفرنسية” في محاولته نسج شبكة جيوسياسية لصد اتجاهات الهيمنة التركية في البحر المتوسط، خاصة وقد تزامنت هذه الزيارة مع الإعلان عن اتفاقية بحرية وطاقة واقتصادية بين اليونان ومصر، من جهة أخرى لا يجب أن نتناسى في كل هذا ما يتم ترتيبه في الشرق الأوسط والموقف الاسرائيلي، بما في ذلك التنافس الإقليمي، والدولي في المنطقة، ولعل الذاكرة الاستعمارية التي طفت بقوة على السطح مع زيارة الرئيس الفرنسي قد تحمل فعلا في طياتها عودة حمائية ممنهجة في القرن الواحد والعشرون، أما الطرف اللبناني إذا أراد الإصلاح الحقيقي وتغليب مصلحة الشعب اللبناني عليه أن يتخذ موقفا شجاعا للانفلات من الأغلال الطائفية والثورة على قادته الفاسدين.