كان يا ما كان, كان هناك بلد اسمه العراق, شعبه يتشكل من اعراق ومذاهب واديان كحال كل بلاد الدنيا, تعايشت جميعها لقرون وقرون فيما بينها رغم كل مر بهم من نكبات وحروب, لكن طبيعة الاوضاع التي تمر بالعراق اليوم تختلف عن ما مر به سابقا, لتعقد الازمة وتشابكها, ولتغير مفهوم الدولة عموما, حتى بات البعض يسأل, هل اننا نعيش اخر الاعوام في عمر العراق الموحد الذي تمتد حدوده من زاخو شمالا الى الفاو جنوبا, ومن المنذرية شرقا الى الى طريبيل غربا؟!
المشروع التدميري للعراق بدأ مع احتلاله عام 2003, عندما اجتاحات القوات الامريكية عاصمة الرشيد فعاثت في الارض فسادا, ودمرت كل مقومات الدولة واولها حل الجيش العراقي, وكان من بين المشاريع المطروحة امريكيا ما اصطلح عليه بمشروع بايدن الذي يقضي بتقسيم البلاد إلى ثلاث دويلات (سنية, شيعية, كردية) في مرحلة أولى، ثم قيام إتحاد فيدرالي بين هذه الولايات في مرحلة ثانية, هذا المشروع كان حينها يلاقي قبولا شيعيا وكرديا, ورفضا قاطعا من قبل السنة, فالكرد المستقلون عمليا عن العراق بحاجة الى لاي دعم لدولتهم التي تطبخ على نار هادئة, والشيعة كانوا حينها لا يزالون متخوفين من تكرار تجربة صدام حسين, اما السنة فلم تملك مخيلتهم اي فكرة عن ما سيحصل لهم في قابل الايام, حيث ستتحول محافظاتهم الى يبابا, ويتوزع ابناءهم بين قتيل او سجين او شريد.
اليوم وبعد سلسلة الماسي والمصائب التي مرت على العراقيين جميعا مع اختلاف نوعها وحجمها باختلاف الزمن والجغرافيا, فان مستقبل البلد بات على كف عفريت كما يقال, فنصف ارضه سيطر عليها تنظيم داعش, في سيناريو اذهل الجميع, ولم يكشف بعد عن اسراره, اصبح العراق مقسما بالقوة, فكردستان تتمتع باستقلالها وهي اليوم غير خاضعة للمركز, وداعش تسيطر بشكل شبه تام على محافظات نينوى والانبار واجزاء كبيرة من صلاح الدين, فيما بدا انه فرض لمشروع بايدن بالقوة.
ورغم ان مسالة تشكيل الاقاليم مسالة دستورية الا ان حكومة المالكي وقفت بكل تعنت امام مطالبة محافظات ديالى وصلاح الدين وحتى البصرة لتشكيل الاقاليم, هذا التعنت انسحب ايضا على مشروع الكونغرس الامريكي مؤخرا بالتعامل مع السنة والبيشمركة كبلدين وتقديم الدعم لهما على هذا الاساس, بعد ان عجزت الادارة الامريكية عن اقناع الحكومة العراقية على دعم المقاتلين السنة ضد تنظيم داعش, وهو ما شكل عاصفة من الرفض تزعمته كل القيادات الدينية والسياسية الشيعية, ومن خلفها ارادة ايرانية تدفع باتجاه تكريس سيطرتها على كامل العراق والانفراد بالقرار العراقي بالكامل.
لايخفى على احد ان مستقبل العراق اليوم يلفه الغموض, لاسيما سنة العراق الذي فقدوا كل شئ تقريبا, وقائمة الخيارات تضيق عليهم يوما بعد يوم, ولذا فهم مدعون –قادة وجمهورا- بالاستفادة من اي ورقة وتسخيرها بما يخدم قضيتهم.
ان ما يحدث اليوم في المحافظات السنية هي في الحقيقة ليست معركتهم، فهم الطرف الخاسر فيها, بل انها تدور عليهم من أجل استئصالهم ومحو هويّتهم، فطبيعة الصراع ثثبت ان مشاريع التدمير والابادة محددة بمناطقهم فقط ولا تتعداها بشبر واحد، ومن هنا فان القناعة بان داعش لا تمثلهم هو امر مفروغ منه, لكن القضاء على هذا التنظيم لا يمكن ان يمر الا عن طريقهم وهو ما يتفق عليه الجميع, فلا الجيش العراقي صاحب الرقم القياسي بعدد الانسحابات, ولا الحشد الشعبي بكل ما يملكه من هالة اعلامية دون فعل حقيقي على الارض قادر على تغيير معطيات الامور, وهذا ما دفع الكونغرس الامريكي لاتخاذ قراره آنف الذكر.
امام خيار الاقليم الذي يبدو ان احداث العام والنصف الاخيرة قد استدعت تاجيله الى حين الانتهاء من ملف داعش الذي جاء – كما يبدو- بإرادة دولية ولن ينتهي الا بنفس الارادة.
وربما يبقى الخيار الافضل هو عودة العراق الى سابق عهده بلدا موحدا قويا مستقل الارادة والسيادة, يقف ابناء جميعا على قدم المساواة, وهو ما يحتاج الى ارادة جمعية من ابناء البلد بكل اطيافه, وهو ما لايبدو متوفر حاليا, فالكرد قد حزموا امرهم على تاسيس وطنهم القومي كنواة لحلم كردستان الكبرى, والشيعة غير مستعدين للخروج عن المشروع الايراني الهادف الى الاستحواذ على المنطقة تحت لافتة التشيع, وما يحدث في سوريا واليمن لا ينفصل عن احداث العراق الا في بعض التفاصيل.
اذن والحال هذه فان العمل على مشروع عربي قوي واقناع المجتمع الدولي بدعمه ابتداء من العراق هو الورقة الاولى التي ينبغي لعبها في العراق, وعلى القيادات السنية لا سيما رئيس مجلس النواب سليم الجبوري صاحب المنصب الاهم للسنة, اقول عليهم العمل على تأسيس نواة لهذا المشروع, يبدأ من قطع الطريق امام طهران للتدخل في معارك تحرير الانبار ونينوى, واقناع الطرف الامريكي بانه المسؤول الاول عما آلت اليه الامور في البلاد وعليه ان يتحمل مسؤوليته القانونية والاخلاقية, لاعادة الامور الى نصابها, مع ابقاء اليد ممدودة الى جميع الفرقاء, عل الجميع يعي انه لا يمكن للعراق ان يعود سالما معافى الا اذا جعلت مصلحته فوق اي مصلحة اخرى, وايقاف استخدام العراق كساحة لتصفية الحساب وتحقيق اهداف لهذه الجهة او تلك, وقطع دابر القوم الذين ظلموا, والحمد لله رب العالمين.