لم تعد معطيات السياسة العالمية اليوم كما هي بالأمس وخاصة في فترة التسعينات وبداية الالفية الحالية فالاوضاع السياسية والاقتصادية أفرزت معطيات جديدة فرضت نفسها على الواقع العالمي وبدأت تقت من عضل اليد الاميركية التي أحكمت القبضة عليه برحيل آخر القياصرة السوفييت عن الكرملين , فقد أصبح العالم بأسره بعد انتهاء الحكم السوفيتي كالرحى التي تدور حول القطب الاميركي وأصبحت الأمم المتحدة واجهة اخرى من واجهات السياسة الخارجية للولايات المتحدة الاميركية وقد إستغلت الولايات المتحدة هذا الوضع لتبطش بأعدائها من بنما الى أفغانستان فالعراق ومن ثم الى ليبيا واستطاعت بفعل النظام الدولي الجديد ان تجعل من اعدائها بالأمس يخطبون ودها ويتسابقون من أجل إرضاء بيتها الأبيض حتى تضمن لهم البقاء في الحكم او منح الامتيازات الاقليمية لهم وكان من أبرع من قفز من الحصان السوفيتي الى الحصان الاميركي هو الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد الذي وصفته رئيسة الوزراء البريطانية الراحلة تاتشر في معرض تمييزها بين شخصيته وشخصية صدام وحسين قائلة ان الرجلين لهما نفس الأهداف ولكن صدام لاعب قمار اما الأسد فهو لاعب شطرنج وعبارة تاتشر كانت اختصارا لسيرة الرجلين بكلمات بسيطة فالأسد كان يستغل المواقف الدولية ويطوعها لصالحه وخاصة في أحداث الكويت فقد انطوى جيشه العربي المعبئ عقائديا للدفاع عن الأرض العربية تجاه الاحتلال الإسرائيلي تحت راية التحالف الذي شكلته الولايات المتحدة لطرد العراق من الكويت وفتح الأسد صفحة جديدة مع الغرب وبدأت العلاقات السورية الغربية تتطور شيئا فشيئا من جميع النواحي وفي مقدمتها النواحي الاقتصادية , ان سوريا تحت قيادة الراحل حافظ الأسد كانت تستقرأ الواقع الدولي بصورة جيدة وتتعامل مع المتغيرات الدولية بروح إحترافية فذة ,في حين على العكس كانت شخصية صدام حسين لا تقرأ الواقع الخارجي أبدا وهي سياسة مغامرة مقامرة الى أبعد الحدود خلفت ما خلفت للعراق من مصائب وويلات .
على أي حال ان ما يهمنا في هذا الموضوع هو المتغيرات العالمية التي بدأت تظهر على السطح وبدأت تشير الى تعاظم الدور الروسي في الساحة العالمية وتراجعا اميركيا ملحوظا , ان تلك المتغيرات حكمها عاملين الأول هو العامل الامريكي الداخلي المتمثل بتعثر أداء الإقتصاد الأمريكي منذ الأزمة المالية العالمية الى اليوم فهو أقتصاد يتباطئ يوما بعد يوم وبالتالي ان الدعامة الاقتصادية للنفوذ الاميركي بدأت تتآكل وبدأ دافع الضرائب الاميركي يندفع نحو البرامج الانتخابية التي تضمن له العيش السعيد والبيئة الامنة ويقف موقف المعارض لاي تدخل خارجي مكلف خصوصا وان مغامرات بوش الابن ذهب بالتليارات الفائضة التي كانت لدى الولايات المتحدة في عهد كلينتون , أما العامل الخارجي هو تعاظم الدور الروسي الاقتصادي في العالم والصين بل واداء دول مجموعة البريكس (BRICS) الخمسة (برازيل, روسيا,الهند,الصين وجنوب افريقيا) فهذه البلدان بدأت تقود معدلات النمو العالمي وقد بسطت هيمنتها الاقتصادية على الساحة العالمية وقد أتى اليوم الذي لا بد أن يترجم ذلك الى واقع سياسي يتمثل في اصلاح منظومة الامم المتحدة وخاصة ما يتعلق بمجلس الامن والدول دائمة العضوية فيه , ان المتتبع للبيانات الختامية لمجموعة البريكس يرى ان هناك قطبا سياسيا اقتصاديا يتشكل الان وبدأ يفرض نفسه على الواقع العالمي .
هذان العاملان الرئيسان كبلا الولايات المتحدة التي كانت تطيح بالعالم يمينا وشمالا وجعلها تحسب الف حساب وحساب قبل ان تطلق العنان لأية عملية عسكرية وتردد الرئيس الاميركي ليس عجزا كما يفسره البعض بل ان هذا التردد له ما يبرره من الناحية العملياتية , ولكن رغم هذا التردد وبداية ضعف السيطرة الاميركية على العالم فما زال الوضع في سوريا ورغم الممانعة الروسية يسير في صالح الولايات المتحدة وان كان ببطئ شديد لأنها تمتلك الأدوات العديدة والخيارات البديلة فإن كانت لا تستطيع ان تقود حلفا ضد سوريا فان بامكانها ان تطيح بالاسد من الداخل فضلا على ان اهداف الولايات المتحدة في سوريا تتعدى الاطاحة بنظام الأسد الى غايات وأهداف أخرى فالساحة السورية أصبحت مصيدة فئران لأعداء الولايات المتحدة في المنطقة فأيران وميليشياتها وأذرعها العسكرية بما فيها حزب الله اللبناني حاضرة بقوة في الحرب الدائرة هناك وعناصر القاعدة والمتشددين الاسلاميين هناك ايضا فضلا عن جيش النظام السوري ومحرقة تلك الحرب تحرق أعداء الولايات المتحدة فقط دون أن تحرك اي ساكن فأعدائها تكفلوا بإبادة بعضهم البعض , انه وضع مريح جدا لصانع القرار في الولايات المتحدة الاميركية وهو يتمنى أن يستمر حتى تستنزف كل القوى المعادية للنفوذ الأميركي في الشرق الأوسط ولكن الأمر كما يعتقد أصحاب القرار السياسي في الولايات المتحدة لن يدوم بأي حال من الأحوال فلا بد لتوازن الرعب في الساحة السورية أن ينكسر لصالح أحد الأطراف وأحد أقرب تلك الأطراف الى النصر هي جبهة النصرة نظرا لخبرتها القتالية الواسعة وتسليحها الجيد والقاعدة الشعبية المتزايدة لها بفعل التحشيد الطائفي الرهيب في المنطقة وان سيطرة جبهة النصرة على دمشق يعني مسكها بزمام ادارة مخزون الاسلحة الكيمياوية التي يمتلكها الجيش السوري وهو ما تخشاه جدا الولايات المتحدة الاميركية وخاصة هي التي كانت تحذر لأكثر من عقدين من الزمان من إحتمالية وقوع أسلحة الدمار الشامل يبد أحدى المجاميع الأرهابية وما أدراك ما هي هذه المجاميع .؟! هذه المجاميع في الدولة التي تحاذي اسرائيل وصاحبة اكبر جبهة مفتوحة معها , ان هذا يشكل خطا أحمر في السياسة الخارجية للولايات المتحدة وإن إقدام النظام السوري على إستخدام السلاح الكيمياوي في الغوطة ضد مواطنيه أعطى إشارة أخرى وتحذيرا جديدا للولايات المتحدة من ان النظام قد يقدم في اخر لحظات حياته على ضرب اسرائيل باي صاروخ كيمياوي يمتلكه الأمر الذي استدعى تحركا اميركيا سريعا لاحتواء الموقف في سوريا والتهديد بتوجيه ضربة الى معاقل النظام ومراكز السيطرة والتحكم من اجل شل قدرته على القيام باية ضربة أخرى بالسلاح الكيمياوي ولكن التهديد لا يعني القيام بالضربة فلا المعارضة الروسية ولا التخاذل البريطاني قد أجلا من توقيت الضربة بل إن الولايات المتحدة كانت عازمة على توجيه الضربة الاخيرة للنظام بعد ان تضمن انه خال الوفاض من اي سلاح دمار شامل قد يهدد به اعدائه وكذلك ان الولايات المتحدة تعلم علم اليقين ان اسقاط نظام بشار الاسد بالضربات الجوية يعني سيطرة جبهة النصرة على الارض وبالتالي إمتلاك تلك الجماعة الاراهابية السلاح الكيمياوي , هذين الأمرين كانا وراء فتور الولايات المتحدة في توجيه الضربة للاسد فالالولوية هي لنزع السلاح الان ,وإن نزع السلاح الكيمياوي سيكون رحلة بداية النهاية في إسقاط نظام الأسد .
ولكن ما هو الدور الروسي تجاه ما تخطط له الولايات المتحدة في سوريا ونحن نعلم ان الروس قد فقدوا كل حلفائهم في المنطقة ابتداءا من افغانستان والعراق وليبيا ومن ثم سوريا ؟ ان الموقف الروسي من كل ما دار في المنطقة كان موقفا براغماتيا الى حد بعيد تمثل في قبض الثمن السياسي والاقتصادي من الغرب مقابل التخلي عن الحلفاء وهذا ما حدث مع العراق وليبيا ولكن الوضع في سوريا بالنسبة الى الروس مختلف جدا , فهناك القاعدة الروسية الوحيدة في المنطقة وهناك منطقة النفوذ الوحيدة لروسيا في الشرق الأوسط وهناك متلازمة بين إنهيار الأسد وإحكام قبضة الخناق على إيران الحليفة الاهم لروسيا في المنطقة الاقليمية وبالتالي فمسألة المساومات بين الروس والاميركان التي ستفضي الى فسح المجال لضرب الأسد مسألة تكاد تكون مستحيلة في ظل الوقت الراهن فالروس لن يقبلوا بذلك الا اذا حصل تغيير في المواقف الدولية الرسمية وغير الرسمية حيال الأوضاع في سوريا , وانقلاب الرأي العام على موقفه اليوم ومساندته القيام بعملية عسكرية ضد سوريا إضف الى ذلك الضغط الاسرائيلي على الكرملين الذي لم يبدأ بعد لأن اسرائيل ايضا بدورها مرتاحة لما يحدث في سوريا ولكنها تتخوف من احتمال سيناريو مزعج لها الا وهو سقوط الاسلحة الكيمياوية السورية بيد جبهة النصرة والتنظيمات المتحالفة معها , بإختصار ان الولايات المتحدة تضع في اولوياتها الستراتجية الحالية نزع السلاح الكيمياوي السوري واطالة الصراع في سوريا الى اقصى فترة ممكنة ومن ثم اسقاط نظام بشار الأسد بمساعدة أميركية الأمر الذي سيعطي اشارة الى الروس بانها ما زالت الأقوى في المنطقة والعالم , ليس من خلال القوة الضاربة التي تمتلكها فقط بل من خلال تعدد الاوراق التي تمتلكها .