منذ بداية العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، الاتحاد الأوروبي والتحالف الانغلوسكسوني (الولايات المتحدة وبريطانيا ) وحلفائهم ، لا يألون جهدا في اتخاذ مئات القرارات التي تحاول إيقاع الأذى بروسيا بشكل عام ، وبالاقتصاد الروسي بشكل خاص ، وقد اثبتت الأشهر الماضية ، وعلى عكس ما كان متوقعا ، فأن جميع هذه القرارات قد ردت على مؤلفيها ، والحقت بهم وبشعوبهم خسائر كبيرة ، حتى باتت أصوات ” أنينهم ” تسمع من بعيد .
وآخر صيحة المحاولات الغربية ، هي الاتفاق على تحديد سقف أسعار النفط الروسي عند 60 دولارا للبرميل، والذي من المتوقع أن يصادق مجلس الاتحاد الأوروبي على القرار قريبا ، وتأكيد جمهورية التشيك التي تترأس مجلس الاتحاد الأوروبي حاليا، أن القرار سيدخل حيز التنفيذ فور نشره في السجل الرسمي بعد إتمام الإجراءات الخاصة بإعداد الوثائق ، وإشارة المندوب البولندي ، إلى أن الاتفاق يتضمن أيضا آلية لإعادة النظر في السعر، والتي ستسمح بالحفاظ على الأسعار عند مستوى أدنى من القيمة السوقية بنسبة 5% ، والحالة هذه ، فانه لا يمكن توقع ان تعترض الولايات المتحدة ( مهندسة القرار ) على مثل هي الخطوة ، بل هي سارعت في تأييدها والترحيب به ، في حين رجحت وزارة الخارجية الأمريكية إمكانية تعديل سقف سعر النفط الروسي إن لم يحقق هذا السقف الأهداف المرجوة من ورائه، وهي “خفض إيرادات روسيا، ومنع حدوث أزمة طاقة عالمية”
الجانب الروسي وكما اكدنا في مقالنا قبل أيام والمنشور هنا أيضا ، شدد بموقف واضح غير قابل للتأويل ، مرارًا وتكرارا على أنه لن يزود البلدان التي فرضت سقفًا سعريًا بالنفط ، ونقلنا عن المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف قوله ، بأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أصدر تعليمات بعدم تصدير النفط والغاز للدول التي تضع سقفا للأسعار ، في وقت جددت روسيا قبل أيام تلويحها بالتوقف التام عن بيع النفط وتخفيض الإنتاج بشكل حاد إذا وضع سقف لأسعار نفطها ، في حين قال نائب رئيس الوزراء الروسي ألكسندر نوفاك إن بلاده تتعهد بعدم تصدير النفط لأي دولة تضع حدا أقصى على أسعار النفط الروسي ، وما أشار اليه بيسكوف ، إلى أن موقف موسكو هو عدم تجارة النفط والغاز مع الدول التي تنوي فرض سقف سعري على موارد الطاقة من الاتحاد الروسي ، ووفقا له ، فانه في روسيا ، على أي حال ، لن “يطلق أحد النار على قدمه”.
كما ان روسيا أكدت أنها لن تبيع النفط بغير سعره، وأن دول “السقف” بخطوتها هذه ستحدث أزمة طاقة عالمية، وستؤجج أسعار النفط، مما سيضر بالدول الغربية ويفاقم آثار العقوبات عليها ، ويرى نائب رئيس الوزراء الروسي ألكسندر نوفاك ، بأن الحظر الذي يفرضه الاتحاد الأوروبي على واردات النفط من روسيا لا ينبغي أن يؤدي إلى تغييرات جسيمة في إنتاج النفط في ديسمبر 2022 ، لأن النفط الروسي مطلوب في الأسواق العالمية ، وبالنسبة للطلبات والعقود الخاصة بشهر ديسمبر (2022) فقد تم التعاقد عليها قبل نهاية أكتوبر – بداية نوفمبر، لذلك لا يتوقع الوزير نوفاك حدوث تغييرات في شهر ديسمبر أما بالنسبة لشهر يناير فالتعاقد جار الآن وسيرى كيف ستسير الأمور ، وقال ” بالطبع هناك الكثير من الشكوك، لكن هناك طلب على نفطنا في الأسواق العالمية”.
إن مبادرة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ، لوضع حد أقصى لسعر دخول النفط الروسي إلى السوق العالمية هي نتاج عدم قدرتهما على حل المشكلات التي تواجه الغرب باستخدام آليات السوق ، وفي الوقت نفسه ، تسارع جميع الإجراءات داخل الدولة ، والأشهر التسعة التي مرت منذ بدء العملية العسكرية الخاصة ، كافية تمامًا للتأكد من أنه من المستحيل إلحاق ضرر جسيم بالدولة الروسية ومواطنيها والاقتصاد من خلال الحرب الاقتصادية التي تشن ضدهم ، و حتى الآن ، نجحت موسكو في حل معظم المشاكل التي تنشأ في هذا الصدد ، وإن وجود مجموعة كبيرة من الشركاء من خارج الغرب يسمح لها بالتطلع إلى المستقبل بثقة نسبية.
وقبل عدة اشهر حاول الغرب بكل قوته ، واستخدامه كل أساليب الترهيب والترغيب في التفاوض مع الدول العربية على زيادة انتاج النفط – لكنهم فشلوا ، والناخبون ورعاة الحرب يطالبون بإنجازات سريعة ، علاوة على ذلك ، فمن غير المعروف تمامًا ، إلى متى ستستمر سلطات كييف فعليًا في ظل نظام الاستغلال هذا ، فمن الصعب تحديد المدة التي ستستمر ، حتى يتم تبرير الضغط على موسكو من خلال الأحداث العسكرية ، وبالمعنى الدقيق للكلمة ، كانت جميع قرارات الغرب بـ “إبعاد” روسيا عن سلاسل الإنتاج والتجارة والمالية العالمية تدخلاً صارخًا في منطق السوق ، ونتذكر جميعًا مدى الصدمة الكبيرة التي تعرضت لها البلدان النامية ، بما في ذلك الأكبر منها ، وهي الحسم الذي دمرت به الولايات المتحدة وأوروبا الأسس الاقتصادية للنظام العالمي الليبرالي في ربيع عام 2022 ، ولكن بما أن الإجراءات المتخذة ضد موسكو تبين أنها غير فعالة ، فإن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يمضيان قدما على هذا الطريق ، علاوة على ذلك ، فإن أفق التخطيط القصير للغاية لا يسمح لهم ببناء “حصار” طويل على روسيا ، وكما كان الحال خلال الحرب الباردة.
إن التجارة في المنتجات ذات الأهمية الاستراتيجية ، مرتبطة حتماً بالسياسة والاعتبارات المتأصلة في هذا المجال ، وكان انهيار أسعار النفط في الثمانينيات مرتبطًا بنفس القدر بالتطور الداخلي للاتحاد السوفيتي والظروف الدولية ، فالاقتصاد السوفييتي المتدهور بسرعة ، والأهم من ذلك ، لم تر إدارة الدولة الخلاص ، إلا في زيادة تصدير الموارد الطبيعية ، وأصبح هذا أحد عوامل فائض الإنتاج العالمي وأدى إلى انخفاض الأسعار ، وهو ما لم يستطع الاتحاد السوفيتي البقاء عليه، بالمناسبة ، هذا هو بالضبط التأثير الذي يمكن أن تأمل فيه الولايات المتحدة الآن ، ربما يتوقعون أن تبدأ روسيا أيضًا في إغراق السوق بالنفط الرخيص وبالتالي حفر قبرها.
من غير المرجح أن تتخذ روسيا تدابير يمكن أن تؤدي إلى انخفاض ملحوظ في وجودها في سوق الطاقة العالمية ، ولا يمكن استبعاد أنه بعد القرار في الاتحاد الأوروبي بفرض حد أقصى لسعر النفط الروسي ، ستحد موسكو بشكل قانوني من الإمدادات لبعض المستهلكين التقليديين في أوروبا ، لكن لا يكاد الجميع وعلى أساس عشوائي ، لا يمكن أن يكون تدخل الدولة في السوق وقحًا على الإطلاق ، كما أوضح فلاديمير بوتين بشكل مقنع في أكتوبر 2021 ، ولهذا فإن الإجراءات التي تتخذها روسيا ضد تلك الدول التي تسعى إلى إلحاق الأذى بها تأخذ أيضًا في الاعتبار دائمًا التأثير على الشركات والمناطق والوظائف المحددة في روسيا، بالإضافة الى ان تحديد سقف سعري للنفط الروسي للاتحاد الروسي، سيسمح بالتخلي عن المشترين غير المريحين والمعادين ، وأعرب عن هذا الرأي عضو لجنة استراتيجية الطاقة وتطوير مجمع الوقود والطاقة بغرفة التجارة والصناعة ، وهو خبير بارز في اتحاد منتجي النفط والغاز في روسيا رستم تانكاييف ، وعلى حد قوله فإن مثل هذا القرار في الواقع سيظهر للعالم تلك الدول التي ترفض العمل وفق قواعد السوق.
كما وستكون هذه لحظة رائعة ، كونها ستسمح لروسيا ، دون أن تفقد ماء الوجه ، بالتخلي عن المشترين غير المريحين المعادين لروسيا – الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وما إلى ذلك ، وسيُظهر لها تحديد سقف للأسعار بالفعل تلك الدول التي ترفض العمل وفقًا قواعد السوق ، وبناء على ذلك ، سيتم انتهاك جميع العقود ، ويمكن اعتبارها غير مهمة ، وأخيراً ، يمكن لروسيا الخروج من الوضع الذي حصلت عليه بفضل هذه الاتفاقيات ، ووفقا للمختصين في شؤون الطاقة فإن هناك ثلاثة سيناريوهات لتطور الأحداث في حال تحديد سقف النفط الروسي.
الأول وهو – الأخف – هو أن روسيا ستستغل الثغرات التي تتركها جميع الدول الأعضاء في مجموعة السبع في هذه العقوبات المفروضة – وهي الولايات المتحدة وجميع دول الاتحاد الأوروبي ، وهم يدركون جيدًا أنه لايمكنهم الاستغناء عن روسيا ، و”هناك الكثير من الثغرات” ، ومع ذلك من وجهة نظر المراقبين ، لن يتم تنفيذ السيناريو الناعم ، لأن الاتحاد الروسي لن يستخدم هذه الثغرات ، ووفقًا لبافيل زافالني ، رئيس لجنة مجلس الدوما للطاقة ، فانه عندما يتم تحديد سقف للسعر ، سيكون من غير المربح لروسيا توريد النفط والمنتجات النفطية ، لذلك ، فإن السيناريو الثاني ، والأكثر خطورة ، هو أن الاتحاد الروسي سيرفض توريد النفط والمنتجات النفطية إلى جميع البلدان التي ستضع سقفًا للأسعار.
وإن احتمال عدم توريد منتجات النفط عند وضع سقف للسعر أمر خطير ، ولكن هناك سيناريو ثالث أكثر صرامة من شأنه أن يجثث ركبتي السوق العالمية للنفط ومنتجات النفط ، والحقيقة هي أن روسيا يمكنها التأثير على توريد ليس فقط النفط والمنتجات النفطية الروسية ، والرابطة الرئيسية التي تشارك فيها روسيا هي أوبك + ، فروسيا تستخدم بنشاط موقعها الرائد في هذه الاتفاقية وستواصل استخدامها ، ونعتقد أن هناك درجة عالية جدًا من الاحتمالات ، أن روسيا ستساهم في حظر توريد النفط والمنتجات البترولية لجميع الدول ، وفرض سقف سعر على روسيا من دول اتفاقية أوبك + .
ووفقًا لذلك ، فإن تنفيذ أصعب سيناريو ينطوي على استخدام روسيا لقدراتها في الضغط لاستبعاد تلك البلدان التي تقدم أساليب تنظيم غير سوقية من السوق العالمية ، وفي هذه الحالة ، ستخسر السوق العالمية للنفط والمنتجات النفطية 50٪ وهذه ضربة لن يتمكن الاقتصاد العالمي من تحملها ، ويرى كثيرون أنه في حالة الحفاظ على سقف سعري للنفط الروسي ، سيتم اتخاذ قرار مماثل فيما يتعلق بالموارد الأخرى التي يصدرها الاتحاد الروسي ، وقد يؤدي ذلك إلى أن تبدأ أوروبا في تحديد أسعار لأنواع أخرى من المنتجات التي يتم تصديرها ، ويجب توقع إنشاء سقف لأسعار الغاز بدرجة أقل ، لأن أوروبا لن تكون قادرة على الاستغناء عن هذا المورد على المدى المتوسط ، وكذلك مثل الأسمدة ، والحبوب ، والصلب ، والألمنيوم ، وفي الواقع ، تم إعلان حرب تجارية على روسيا سواء بالعقوبات ، أو الرسوم المختلفة ضد البضائع من روسيا ، وهذا قد تواصل ، لذلك ، لا ينبغي إعطاء أي أسباب لذلك .
ويعتقد الخبراء أن هذا سيكون له تأثير ضئيل على الصادرات من الاتحاد الروسي ، ومن الواضح اليوم أن الشركات الروسية والشركات من الدول الصديقة يمكنها تأمين السفن الروسية ، وعلى سبيل المثال ، في الهند ، كما إن الغرب نفسه ، يخلق ثغرة للالتفاف على الحظر من خلال إدخال تكلفة هامشية ، وإذا كان النفط خاضعًا لسقف سعر فقط عند شرائه لأول مرة من قبل المشتري على الأرض ، فقد اتضح أن لا أحد يحظر إعادة بيع هذا الوقود ، ومع ذلك ، صرح الرئيس فلاديمير بوتين في وقت سابق أن روسيا لن تزود النفط لتلك الدول التي من شأنها أن تحد من أسعارها ، وأن هذا يعني أن الهدف الذي حدده الغرب لن يتحقق – وسيستمر تدفق المواد الخام بشكل أساسي إلى آسيا ، وستكتسب هذه المنطقة مزايا تنافسية في الصراع الاقتصادي العالمي.