لم تأتِ أمريكا عام 2003 غازية ً للعراق ، بل؛ عادت لكي تستبدل نظام صدّام حسين المتفرد بالسلطة بنظام سياسي شمولي ، تشترك في عمليته السياسية كافة الفئات والأحزاب العراقية.
ففي آذار /1991 وجدت أمريكا أنَّ الشارع السياسي على المساحة الديموغرافية العراقية العريضة قد اختلى بالشيعة ، ولسنا هنا؛ بشأن الأسباب ، بل ؛ بشأن تقرير واقع الأحداث حسب !.. المتابع للمشهد التاريخي لأحداث آذار/1991 يرى أنَّ تلك الانتفاضة كانت انتفاضة ً شعبية ً عراقية محضة.. دون تدخّل أيّة جهة خارجية إطلاقاً ، نعم ؛ أُرفدت هذه الفورة الشعبية بمد عراقيًّ لوجستيٍّ متواضعٍ تماماً، لم يرقَ إلى الدرجة القيادية الحكيمة ، القادرة على استيعاب وتوجيه الانتفاضة الشعبية الشعبانية نحو تحقيق أهدافها السياسية ..
ربّما للأسباب التالية :ـ
1. أسباب تنظيمية
2. أسباب اقتصادية
3. أسباب عسكرية
4. أسباب أخرى
أولاً : الأسباب التنظيمية : حيث كان الشعب العراقي آنذاك فارغاً سياسياً،فقد استطاع نظام صدّام أنْ يصفـّي كافة خصومه السياسيين في داخل العراق ، أو أسكتهم وأصمَّ أفواههم وألجم جماحهم ،أو يجبرهم على الانتماء إليه ، فلم يكن أيُّ حزبٍ سياسيٍّ قادر ٍعلى الاستفادة من الحدث المفاجئ آنذاك ، ولعلَّ هذا؛ أهم ما ضيّع الفرصة على السياسيين من عناصر الانتفاضة ، بأن يستفيدوا من تلك المرحلة .
ثانياً : الأسباب الاقتصادية : حيث كان الشعب العراقي يئن جوعاً من ضغوط الحصار عليه ، فلم يكن العراقيون قادرين على أن يمدوا تلك المفاجأة بالدعم الاقتصادي .. إلا من بعض ما أستطاع أن يحصل عليه بعض المنتفضين عن طريق المخازن الحكومية .. كالغذاء والسلاح .
ثالثاً : الأسباب العسكرية : لقد استطاعت الانتفاضة الشعبية الشعبانية العراقية أن تتسلح بأنواع بسيـــطة من السلاح ، مما جعلها تمتلك قدرة عسكرية تشبه الجُنـَيـْح العسكري الوليد للانتفاضة، سرعان ما وئدَ وأُذيب بنار القوات العسكرية الكــــــبيرة والمقتدرة لنظام صدّام ، الذي لم يزل حاكما،لحظة انسحاب القوات المتحالفة عن العراق .
رابعاً : أسباب أخرى : ـ لعلَّ من أهمها ما يلي :
أ. عدم وجود تنسيق بين قادة الانتفاضة الشعبانية وقوات التحالف .. لا من الخارج ولا من الداخل .
ب. عدم وجود تنسيق بين قادرة الانتفاضة الشعبانية أنفسهم .
ت. عدم وجود مرجعية شيعية ثورية ، بعد تصفية السيد محمد باقر الصدر (رض)
ث. عدم وجود دعم دولي خارجي .. دعم إيراني .. دخول قوات بدر ..الخ
ج. عدم تشابه عناصر الانتفاضة الشعبية ، إذ؛ ليس جميع المشاركين في الانتفاضة كانوا يهدفون إلى تغيير نظام صدّام ، بل ؛ إنَّ في تلك الانتفاضة كانت عناصر سلب ونهب، استنفدت أغراضها لحظة خلو المخازن الحكومية من المواد والمؤن
ح. شعار الجماهير المنتفضة لم يكن عراقياً صرفاً، بل كان يحمل النفس الطائفي ((ماكو ولي إلاّ علي وانريد قائد جعفري)) .. وهذا ما أفقد الانتفاضة الجبّارة صورتها الوطنية الشاملة ، لكي تستقطب المعارضة العراقية التي تتمنى زوال نظام صدّام .. أكراد .. تركمان .. سنه .. شيوعيون .. آخرون ..
خ. قصر عمر الانتفاضة الشعبانية ، فحالما عرفت أمريكا الشعار الذي رفعته أصوات الانتفاضة، تخوّفت من قيام نظام سياسي شيعي على غرار النظام في إيران آنذاك.
ولعلَّ هنالك أسباب أخرى يعرفها المثقفون والمحللون السياسيون !!!
والحالة هذه ؛ …
فلعل َّ الذي استفادته أمريكا في العراق من آذار/1991هو الذي حقق لها ما حدث في آذار/2003.. وربّما يتلخص بما يلي :ـ
1. تغيير الخارطة السياسية العراقية خلال ما يزيد عن العقد من التاريخ (1991 ـ 2003) بشكلٍ لا يسمح بقيام أيّة حكومة شيعية في مستقبل العراق السياسي ، من خلال مؤتمري لندن وصلاح الدين ، ومن ثم الاطمئنان على عدم تنامي المعسكر الشيعي في الشرق الأوسط .
2. تقييد العراق من أن يأخذ دوره العربي كطرف مهدد لإسرائيل .
3. إيهام الشعوب المناضلة ضد الدكتاتوريات بأنها راعية الديمقراطية في العالم .
4. الحصول على المبررات اللازمة لتواجدها في منطقة الخليج .
5. إعطاء الأمل القومي لأكراد المنطقة في إيران وتركيا وسوريا بالدعم الأمريكي، وتأهيل هذا الأمل ليكون مشروع انقلابي ومقلق للأنظمة الحاكمة فيها .
6. إسقاط نظام صدام حسين .. وهو الذي وصفه (بوش)عام 91 : ـ (( نمر خرج من قفصه يجب تقليم أظفاره …))
ولعلَّ أيضاً ؛ هنالك أمور أخرى يعرفها المثقفون والمحللون السياسيون .
لقد دخلتْ القواتُ المتحالفة ُ العراقَ في آذار/1991 دون أيّة مقاومة شعبية .
إلا ّ أنّها عندما دخلت مرّة ً ثانية في آذار/2003 واجهت مقاومتين .. وكما يلي : ـ
1. مقاومة عاجلة
2. مقاومة آجلة
أولاً : المقاومة العاجلة : ممثلة بقوات نظام صدّام حسين وأتباعه، والتي تم تدميرها تماماً، وانتهت بإسقاط نظامه في 9/4/2003 ..
ثانياً : المقاومة الآجلة :
ولابد لنا أن نقف بقليل من المقارنة والتحليل المتواضعين عند هذه المقاومة ..!
عند غزو كوبنهاكن من قبل قوات ألمانيا الهتلرية في 9/4/1940 ، لم يواجه الألمان أيّة مقاومة لاحتلالهم مملكة الدنمارك، ألاّ أنَّ الرفض الدنماركي ازدادَ مع استمرار الاحتلال ،وبدأ يأخذ أشكالاً مختلفة .
وهذا ما حدث أيضاً ؛ عند غزو بغداد من قبل قوات التحالف الأمريكي في 9/4/2003، لم يواجه الأمريكان أيّة مقاومة شعبية (غير حكومية)، إلاّ أنَّ الرفض العراقي ازداد مع استمرار الاحتلال،وبدأ يأخذ أشكالاً مختلفة!
من هنا ؛ نستنتج الآتي :ـ
1. إنَّ الشعوب المحكومة بالأنظمة الدكتاتورية، إذا ما عجزت عن إنجاح نضالاتها ، ربما؛ تضطر إلى الترحيب بالغازي المخلـّص من الظلم .
2. إنَّ الشعوب التي ترزح تحت الاحتلال ، لا تستطيع أن تتقبل الاحتلال .. وإنْ وجدته مخلـّصاً لها من المعاناة .
عليه ؛ فمن الضروري أنْ تتيقن الإدارة الأمريكية ، بأنّها لن تستطيع أن تحتل طويلا ًأيَّ بلدٍ في العالم ، مهما تحايلت وادعت ، بأنها راعية ً للديمقراطية في العالم.
وإذا أرادت أمريكا أن تكسب القلوب والشعوب ، فعليها أن تصدقَ في مشاريعها الديمقراطية وخرائطها السياسية ، لكي ؛ يتكون اعتقادٌ حقيقيٌّ لدى شعوب المعمورة ، بأنَّ الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاءَها راعية ً للديمقراطيات لا راعية ً للأبقار !!!