23 ديسمبر، 2024 9:06 م

مات الفتى الخجول !!

مات الفتى الخجول !!

ربما هي ثمانينات الماضي حين ضجت قاعات، «الف باء» بمقدم فتيان من طلبة كلية الاعلام لاغراض التدريب والمعايشة، يحضرني من بينهم كريم مشط وسعد مطشر وموحان عاصي و.. كان من الطبيعي ان تنشأ بيني وبينهم علاقة وطيدة يصرون على التعامل معها بلغة (الاستاذ والتلميذ) واصر انا على فهمها علاقة زمالة ومهنة ومحبة!.
لا ادري من اين تولدت في ذهني قناعة قديمة، ان الصحفي يحتاج الى قدر من الشجاعة والمواجهة والتدبير والاحتيال والمراوغة وشيء من قلة الحياء.. والى قدر كبير من الموهبة والفطنة والنباهة ، ولان سعد مطشر لا يحسن المراوغة والاحتيال وفيه طيبة امهاتنا ودرجة حيائه فاقت الحدود المسموح بها.. ولانه يستحي ان يرفع عينيه في وجه من هم اكبر منه، فأنه لا يجد غضاضة ان يوافقك الرأي ويتنازل عن رأيه وان كان الحق الى جانبه ، بهذه الوسائل الاخلاقية على الرغم من مضارها عمد الفتى الى اكرام الاخرين، ولهذه الاسباب مجتمعة كنت احدث نفسي سرا وهمسا (هذا الولد من سلالة الملائكة والصحافة من ذرية الشياطين، لذلك ستلفظه او يلفظها) غير ان الفتى الخجول كان ابعد من وساوسي ، فقد تعلق بالعمل الصحفي تعلق عاشق، ونجح في مهمته مستندا الى (الموهبة والنباهة والسمو الاخلاقي) ما شعرت يوما انه يسعى الى هدفه المهني وحلمه الشخصي، عبر العضلات المفتولة والحيلة والضحك على الذقون، بل اختط المصداقية والصبر الجميل، ليفرض حضوره الابداعي والاكاديمي بجداره، نسمة ربيعية لا تراها ولكنك تتمتع بها وهو ينجز تحقيقاته للمجلة بصمت، ويشعر بالامتنان لسماع اية ملاحظة …
نال الدكتوراه وكبر في مستواه الوظيفي ومنزلته العلمية ولكنه كان يصغر في تواضعه ويذوي في خجله وادبه الجم، ما من مرة جمعتنا المصادفة او خطوط الموبايل الا وخاطبني خطاب الابن البار، ويتحدث عن فضلي عليه في تربيته الاعلامية (اخر اتصال لنا كان قبل اسبوعين على رحيله) وانا لا اعرف لنفسي شيئا من فضل على الفتى الذي علمني قبل ان اعلمه، منه عرفت كيف يكسب الانسان احترام الاخرين باحترام نفسه، وكيف يكون الوفاء والاعتراف بالجميل، ولو على قدح ماء!.
مات سعد، وبموته هوى عمود شامخ من الكبار الذين لم يتملقوا سلطانا، ولم يساوموا على مبدأ، ولم يتخذوا من الاعلام معبرا، وظلت الكلمة الشريفة همهم الوحيد في الحياة، مع ان مثل هذه الكلمة تورث الفقر ووجع الرأس، كبيرا انت يا سعد حتى لحظة موتك تمر مثل نسمة ربيعية رقيقة، مع انها تهز المشاعر والوجدان والكون… لم تمـــــت يا سعد.. يا ذاكرة الزمن الجميل.. لان مثواك ضمائرنا وجنات الخلود.