18 ديسمبر، 2024 8:39 م

الانتحار من حيث المفهوم السائد: هو الذهاب لخيار الموت بمحض الإرادة، مع كمال الفكر وسلامة العقل، على فرض ان الموت هو نقطة لبداية الفناء المريح، أو بمعنى اخر هو المرحلة التي تتلاشى معها عذابات المنتحر في الحياة الدنيا، وهذا ما يتخالف مع تقدير الخالق وتدبيره، فيشرع حرمته، وقد يأخذ الانتحار صورة اخرى مغايرة او معاكسة عما سبقتها بالمطلق، بأن يكون الانتحار: هو نقطة بداية الحياة والخلود في الدنيا والآخرة،! إذا ما ارتبط بدوافع العقيدة أو الأيمان بما يراه البعض مستحق للتضحية بالروح والجسد، على كلا الفرضين بان تكون العقيدة بالسلب أو الإيجاب، من حيث العقيدة المنحرفة او الصالحة.

قد يعتبر البعض بأن طرق الانتحار جميعها، مختزلة في كون المنتحر هو من قام بأزهاق روحه، من حيث القيام بمدلول الفعل الذي ادى الى الموت، وحقيقة هذا الاعتبار تكمن في المفهوم الاول الذي تكلمنا عنه في أعلاه، ما اود التركيز عليه من خلال هذا المقال، هو انه ليس بالضرورة بان يكون المنتحر هو من قام بردة الفعل اتجاه حياته، فقد تزهق روح المنتحر من خلال شخص اخر او جماعة أخرى، وهذا ما يتصف غالبا بالدفاع عن عقيدة او ايمان بمشروع يتعارض مع الفرد القاتل او الجماعة، ولعله يطرح السؤال هنا: أوليس من الافضل ان نسمي هذا عملية شروع بالقتل بعيدا عن مصطلح الانتحار؟ على حد الجزم بان المنتحر قتله من حوله ولم يقم هو بقتل نفسه!!

صور الحرب الغير المتكافئة بالعدة والعدد أ وليس من الافضل ان نسميها انتحارا، سواء لفرد لو ثلة قليلة امام جيش بالألف المقاتلين، كلمة الحق التي تطلق برحاب ومسامع حاكم فاجر ظالم قاتل أ وليس من الافضل ان نسميها انتحارا؟ مع علم صاحب تلك الكلمة بقتله حيالها، ممارسة تقاليد او اعمال في بقعة من بقاع الحكام الجائرين المحاسبين على تلك الممارسات بالقتل، أ وليس من الافضل ان نسميه انتحار؟ الشروع الى احداث ثورة لا يمكن لها ان تنبت إلا بالدم والتضحية بالأرواح، امام اعتى وأعظم جيوش الجور والظلم ألا يعتبر انتحارا؟.

اذا ما كان يسمي البعض هذا انتحارا!! اذن فهو انتحار مشروع، كونه ردت فعل لا تعتمد على ازهاق الروح ويفنى ويتلاشى كل شيء بعدها، بل على العكس من ذلك ستبقى تلك الروح اشبه بالكابوس الذي يجثم على صدر قاتليه، ويهدد ملكهم وسطوتهم في كل لحظة، ولا تنتهي ردة الفعل تلك حتى ينبت الدم في عروق ونبض الثائرين فيما بعد، ولو تفحصنا التأريخ لوجدنا ثورة الامام الحسين في كربلاء، افضل واقرب مصداق للانتحار المشروع، الذي يقرأه البعض من المخالفين بأنه انتحار لا مبرر له، لعدم تكافئ الطرفين من حيث الجيوش والأسلحة بالعدة والعدد، متناسين بأن الحسين بثورته وضع اسس وثوابت فرقت بين الاسلام الحقيقي والإسلام المزيف، وأنبتت البذرة الصالحة في نفوس الاحرار والثوار، لرفض المسار المنحرف في الحياة الدنيا، وهذا ادنى مبرر بان يكون دم الحسين وأصحابه وأهل بيته ثمنا لإحياء الإسلام، وإرجاعه الى جادة الطريق الصحيح.

من مصاديق ثورة الحسين في كربلاء، تكاثرت الثورات ضد الظلم، وانبتت تلك الدماء عشرات بل مئات الثائرين في بقاع العالم، حتى صارت ثورة الحسين تدرس في العديد من اروقة ومطابخ الثوار، من حيث المبادئ والعزيمة والشجاعة والصدق مع الله ومع النفس، فقيل: ( تعلمت من الحسين ان اكون مظلوما كي انتصر) وقيل: ( ان الحسين بكربلاء احدث ثورة ستغير العالم فيما بعد) وقيل: ( الحسين بمقتله ينفي بان الفرد لا يستطيع احلال ثورة تهز اركان العالم) وقيل: ( الحسين ابن علي ثائر يستقطب الثوار وحرا تقصده الاحرار)، إذن ثورة الحسين تركت بصمة وأثر لم تخلوا بقعة من بقاع العالم من التغني بمآثرهما لأنه جسد شتى دوافع الانتحار المشروع..!!

اليوم وبعد اكثر من (1348) عام، وعندما نسمع من السلطات السعودية في مكة، حرم بيت الله الآمن، بأن حاج عراقيا مات منتحراً، حتما سيكون في خضم الانتحار المشروع، الذي انبت بذرته الامام الحسين، فصرخته وكلمته المدوية (لبيك يا حسين)، بوجه تلكم الجماعة الضالة الكافرة الظالمة، وفي ارجاء وبين اركان بيت الله، يبدو انها كانت بركان يهدد سطوتهم وملكهم، فهم يرون بالحسين ثائرا، يهدد وجودهم وجبروتهم سواء حيا كان ام ميتا..! كما كان آبان حكم اجدادهم من آل امية وبني الزبير والعباس، وهذا من ابسط مدلولات ثورة الحسين التي لا زالت أثارها باقية الى اليوم، تهيج مكامن المتسلطين بالظلم، وكأنها الشرارة او الفتيل الذي منه تشتعل الثورة.