في الصف الأول الابتدائي علمتنا معلمتنا ان مثنى كلمة دار.. داران، كما علمتنا ان مجموعها.. دور، ونشأنا على هذه الصورة الجميلة التي لم نكن ندرك سر جمالها وكنهه، حيث كانت أجمل صورة في مخيلتنا هي 10/10، والأجمل منها عبارة (أحسنت يابطل) ومن ينلها فقد فاز بالـ (دار). كما كان هناك شريط أبيض يعلق على صدر التلميذ النظيف، من يحصل عليه فقد فاز بالـ (داران)، وشريط آخر أحمر للتلميذ الشاطر والفعال في صفه، والذي يحصل على نتيجة (أول مكرر) وهو الذي تكون الـ (دور) من حصته. وبتحصيل حاصل فإن الدار والدارين والدور كلها كانت بمتناول أيدينا، إذ كانت قاب قوسين أو أدنى من الـ (نظيف) والـ (شاطر) منا.
وكبرنا وبدأت كلمة دار تأخذ في مفهومنا معنى أوسع وبعدا أكبر، إذ أمسى للدار جار وجاران وجيران، وتولدت لحرمتهم قيم ومبادئ والتزامات. بعد سنوات كبرت الـ 10/10 معنا، وتضاعفت عشر مرات وصارت 100/100 وأضحى تحقيقها أملا يفتح آفاقا أكبر لآمال أكثر جمالا، يومها أدركنا فحوى أبيات تعلمناها للشاعر مسكين الدارمي يقول فيها:
نـاري ونـار الجـار واحدة وإليـه قبلـي ينزل القدر
مـاضـر جـارا لي أجـاوره ألا يكـون لبابــه سـتـر
أعمى إذا ماجارتي خرجت حتى يواري جارتي الخدر
ومن يومها كلما زاد عمرنا يوما ازداد احترامنا للجار، وازداد التزامنا بحسن الجوار، وقد أدركنا سبب تأكيد نبينا (ص) على “جارك ثم جارك ثم جارك”. ولاأظن أحدا منا قد نسي ماكان أهلونا يفعلون مع الجار الجديد، بدءًا من ساعة نزوله في داره، حيث يتسابق الجيران في تقديم العون والمساعدة له، فضلا عن (صواني) الغداء والعشاء التي تصل بيته محملة بما لذ وطاب.
اليوم.. وقد اتسعت الدور وكثر الجيران، وصارت البيوتات أزقة ومحلات، واكتظ سكان المدن بالنسيج الفسيفسائي العراقي المميز، ماذا لو سألنا أنفسنا ونحن في العقد الثاني من القرن الواحد وعشرين؛ أين نحن من تقاليدنا وأعرافنا الاجتماعية الأصيلة؟! لاسيما والعراق يمر بـ (تسونامي) التهجير على أيدي الضالين، وماعادت (دربونة) من مدننا تخلو من المهجّرين قسرا من بيوتهم ومحافظاتهم، بعد ان كانوا فيها آمنين، وبذا يتضاعف الواجب علينا، فهم جار.. وعابر سبيل.. ومحتاج.. وعزيز قوم ذل.. وغني افتقر.. وهم “نظراؤنا في الخلق إن لم يكونوا أخوتنا في الدين”…
هو قطعا.. واجب وطني وانساني وأخلاقي ومهني، تقع مسؤوليته على عاتق من اصطبغت سباباتنا بنفسجا لتنصيبهم ووضعهم في علية القوم، لكن..! يبدو أن المناصب والكراسي المحاصصاتية سدت الآذان وصمّت الأسماع.. وأعمت البصيرة والبصر على حد سواء، فاستحال على الساسة النظر الى غير موضع المصالح الشخصية، والمنافع الفئوية، إذ لامعنى للوطن والوطنية لديهم، كما لامعنى للدار والجار في قواميسهم، وشح بينهم (النظيف) و (الشاطر) وعلى هذا فاستحقاقهم من العشرة والمئة صفر.. لاغير.